في خضم كل ما يمر به العالم من مآزق سياسية ومعضلات اقتصادية وأزمات بيئية وغذائية ومائية، جاء وباء «كوفيد 19» ليضيف هماً جديداً فريداً ويفتح أبواب صراعات لم تكن على بال ولم تطرأ على خاطر.
الصراعات المتواترة الناجمة عن فيروس «كوفيد 19» وتحوراته التي حولته إلى واقع يبدو أنه مصاحب لنا لحين إشعار آخر تكشف عن وجه جديد ومحتوى إضافي كل يوم. في بدايات 2020، ظن سكان الكوكب أن أسوأ ما يمكن أن يحدث لهم هو الإغلاق والحظر. وغرقنا جميعاً في أسابيع من عزلة العائلات والأفراد خلف أبواب مغلقة.
من كان يمقت عمله صار يحبه. ومن كان يكره مدرسته أصبح يعشقها. ومن كان يتأفف لأصوات أبواق السيارات ومشاحنات الناس على الطريق صار يحنو إليها وتداعب أحلامه. ومن اعتبر الإغلاق والانعزال ميزتين كبيرتين أعادتا له سلامه الداخلي وسكينته النفسية صار يحصي الأيام والساعات ليعود إلى حربه الداخلية وصخبه النفسي.
لكن ها نحن في منتصف 2021 وقد أصبح الإغلاق والحظر والمنع والعزل سمات طبيعية ومفردات عادية يستخدمها الجميع وكأنها تفصيلة من تفاصيل الحياة الاعتيادية. وكأن ما سبق بالإضافة إلى خطر الفيروس الأصلي والظلال الوخيمة التي ألقى بها على اقتصاد أعتى الدول وخيارات سوق العمل المتعثر أصلاً، فها هي ملامح أيديولوجية وحقوقية جديدة تطل برأسها عبر الباب نصف المفتوح.
ومثلما فتحت اللقاحات المضادة لفيروس كورونا باب الأمل لتقليص خطر الإصابة وإنقاذ أرواح واستعادة الحياة التي افتقدها الجميع، فتحت كذلك أبواباً صادمة مباغتة. مخاوف تلقي التطعيم – أي تطعيم - ليست جديدة. والإشاعات التي تتفجر حول الآثار الجانبية للتطعيم – أي تطعيم - ليست فريدة. ومحاولات إقحام الدين واعتبار التطعيم – أي تطعيم - حرام شرعاً أيضاً ليست حديثة. وكل ما سبق تدور رحاه من حولنا منذ خرجت شركات اللقاحات الكبرى بمجموعة من اللقاحات قبل أشهر.
لكن أن تندلع تظاهرات يطالب المشاركون فيها بحرية عدم الخضوع للقاح والاعتراض على جعله إجبارياً، فهذا غريب مريب. الحقوق والحريات تبقى دائماً ملفاً ملغوماً. فهي كالماء والهواء يحتاجها الجميع ويهفو إليها كل محروم. لكن الخط الرفيع جداً والفاصل بشدة بين حرية الفرد المطلقة من جهة وبين تأثير هذه الحرية على صحة الآخرين وحياتهم ورفاههم من جهة أخرى يفرض نفسه قضية كبرى هذه الآونة.
من فرنسا إلى اليونان ومنها إلى أمريكا وألمانيا ودول اسكندنافية وأخرى أوروبية، تندلع تظاهرات بين وقت وآخر مطالبة بحرية عدم تلقي اللقاح. أحدث هذه التظاهرات شهدتها باريس وأثينا قبل أيام. وهناك توقعات بتمدد التظاهرات المطالبة بحرية عدم الخضوع للقاح – وفي أقوال أخرى حرية نشر الوباء - لمدن فرنسية أخرى وغيرها حول العالم الواقع في غرب الكرة الأرضية بالإضافة إلى أستراليا.
أستراليا التي «حسدناها» حين ضربت المثل والقدوة في التعامل مع الوباء صارت في موقف لا تحسد عليه اليوم بسبب تصاعد الإصابات وتواترها لدرجة أدت إلى فرض إغلاق لم يحدث في بداية الوباء! الدولة القارة التي تغزل في تعاملها مع الفيروس مدير المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية وكبير المستشارين الطبيين للرئيس الأمريكي جو بايدن أنتوني فاوتشي صارت اليوم في وضع لا تحسد عليه. وبعد أشهر من إصابات تقدر بالعشرات، حيث لم يزد العدد على ألف بين دولة تعدادها 25.36 مليون فرد وحياة شبه طبيعية وفعاليات فنية شعبية وعمل كالمعتاد من دون تطعيمات، تعثرت وأغلقت ورغم ذلك تشهد تظاهرات ضد إلزامية اللقاح.
وبين ليلة وضحاها، لم يعد نظام الرعاية الصحية الكفء والاستجابة الصحية الآنية الرائعة كافيين لدرء خطر الفيروس. وأصبح اللقاح هو طوق النجاة الوحيد المتاح جزئياً، إذ خرج وزير الصحة في «نيو ساوث ويلز» (الولاية حيث الإصابات الأعلى) براد هازارد ليعلن أن إمدادات اللقاح الإضافية هي الطريقة الوحيدة لوقف انتقال الفيروس. وحين ذكر أن عدم التزام الناس البقاء في بيوتهم، تمثل الرد من قبل الآلاف في الخروج في تظاهرات رافضة للإغلاق وأوامر البقاء في البيت، بل واشتبكوا مع الشرطة مطالبين بالحرية!
مواجهة الوباء بفيروسه العنيف وتحوراته المخادعة لن تستقيم إلا بتلقي أكبر عدد ممكن من سكان الكوكب اللقاح، وإلا فسيكون العالم كمن «يخوض حرباً ويداه مقيدتان خلف ظهره» كما قال هازارد مشيراً إلى سكان ولايته.
أيادينا المقيدة ستظل مكبلة للحركة والحياة والحرية طالما مفهوم الحرية يعاني التباساً وعواراً وتطرفاً في التفسير. وبدلاً من أن يعاني العالم عدم كفاية المعروض من اللقاحات لتأمين سكانه، إذ بجانب من السكان يعتنق البطر ويتطرف في الحقوق ويغالي في الحريات، ويخرج في تظاهرات مطالبة بحقه في قتل آخرين وإزهاق أرواحهم رافضاً حقيقة أن «لنا في اللقاح حياة».