القيادة وأخلاقية التعامل الإنساني

ت + ت - الحجم الطبيعي

القائد الحقيقي هو الذي يجمع بين وضوح الرؤية النظرية للقيادة، وعمق الممارسة التطبيقية لها، وليس من المبالغة في شيءٍ أن يُقال: إنّ صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، هو واحد من هذا الطراز الفريد من القادة، فلا يكاد يخلو كتابٌ له من فصولٍ كاملة مخصصة للتعريف بمفهوم القيادة، فضلاً عن وجود إشارات كثيرة ثرية المضمون تشرح مفهوم القيادة وفلسفة صناعة القائد، وتزداد قيمة هذه الخبرة النظرية بمفهوم القيادة حين نتيقّن أنّ سموه يعيش سلوك القيادة منذ مرحلة مبكرة جداً من عمره منذ أكثر من نصف قرن حين انخرط وبكل طاقته في معركة البناء والتحديث لدولة الإمارات العربية المتحدة، وأسهم إسهاماً عظيماً في جميع مسارات البناء بحيث تلوح بصمته الخاصة على البناء العميق للدولة على جميع المستويات المادية والمعنوية والتي تركت أعمق الآثار في إعادة صقل المفهوم الصحيح للقيادة، وأنها ليست مجرد أفكار نظرية تفشل عند اقترابها من ميدان التطبيق والإنجاز.

وتأكيداً على هذا الجمع الرائع بين النظرية والتطبيق في خلق الشخصية القيادية، عقد صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد فصلاً عميق المحتوى بعنوان «القيادة» في كتابه «رؤيتي: التحديات في سباق التميّز» حيث يُفرّق صاحب السموّ بين أنماط القيادة بحسب حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها، فمن يقود جماعة صغيرة ليس كمن يقود جيشاً، ومن يقود جيشاً ليس كمن يقود دولة، وهكذا تتفاوت الرؤى في نسبية هذه المسألة ليطرح سموّه بعد ذلك فكرة صناعة القادة وهل يمكن تحقيقها بالتعلم والتدريب، أم هي قدرات فطرية تُولد مع الإنسان، ليختار سموه نظرة خاصة به تقوم على اصطفاء أفضل ما في الفكرتين، ليؤكد خصوصية هذه المسألة وأنّها متعلقة بالتكوين الروحي والعاطفي للإنسان وليست مصبوبةً في قالبٍ معيّن بحيث يمتلك كل شخص طابقَ القالبَ مواصفات القائد الناجح، الذي يتميّز بحسب عبارة صاحب السموّ بخاصية التطلّع إلى الأمام واستشعار الاتجاهات المستقبلية وتوقّع مجرى الأحداث وإعداد الناس لها.

في هذا السياق من الاهتمام المتواصل من لدن سموه بغرس قيم القيادة في النفوس والعقول، نشر مقطعاً صوتياً على حسابه في إنستغرام يقوم في جوهره على تعزيز الحسّ الأخلاقي لفكرة القيادة، وأنها لا تنمو وتنضج بالضغط والإكراه والمتابعة اللصيقة التي تضغط على الروح الإنسانية، ولا تمنحها الفرصة لتصحيح الأخطاء بعد وقوعها، فجاءت هذه الومضة القيادية الثمينة لتضع النقاط على حروف التوجيه السديد الذي ينبغي أن يسلكه القائد في مشواره الطويل في صنع القيادات القوية في بلده وبين أبناء شعبه.

(القائد لازم يكون قائد إنسان) بهذه العبارة المفعمة بالحسّ الإنساني الرفيع يفتتح صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد هذه الومضة القيادية ليؤكّد التلازم الوثيق بين مفهوم القيادة ومفهوم الإنسانية التي هي في جوهرها عمق الحسّ الأخلاقي بالمسؤولية، وعدم ممارسة السلطة المطلقة على المرؤوسين، وهذا سلوك لا يتحقق إلا إذا امتلك القائد حسّاً إنسانيّاً مرهفاً يجعله إنساناً صادق التواضع، معمور القلب بالرحمة، حليماً في مواطن الزلل، حكيماً في تقدير الأمور، فهذه هي معايير السلوك الإنساني الذي يجعل للحياة مذاقاً خاصاً يقوم على الشعور بالأمان، الذي هو وراء كل إنجاز وإبداع، وحين يتجرد القائد من هذا الحسّ الإنساني العميق يتحوّل إلى مجرد سلطة وربما كابوس يجثم على صدور من يعمل معه، وتكون أغلى أمنياتهم الخلاص منه ومن حضوره الذي يربك الجميع، ويُشيع ثقافة الخوف والنفاق ويعطّل طاقات الإبداع والابتكار والإنجاز.

(ومبْ كل واحد يخطي تعاقبه على خطئه، يعني أنت تراعي شعوره) في هذا القسم من الومضة يوضّح سموه المعنى السلوكي والأخلاقي للقائد الإنسان، فالإنسانية ليست مجرد مشاعر بل هي سلوك له استحقاقات، والاستحقاق الأول للحس الإنساني في القيادة هو عدم المبادرة إلى معاقبة المخطئ، وضرورة مراعاة شعوره، ومنحه إحساساً صادقاً بالأمان والطمأنينة، فإنّ الخوف والتوتر والقلق هي العوامل العميقة التأثير في هدم الروح العملية لدى الإنسان، فحين يخاف الإنسان ويسكنه القلق والتوتر فلن يكون قادراً على تقديم شيءٍ ذي بال، بل يحدث العكس من ذلك، فيقلّ الإنجاز، وتتعثر المسيرة، وتهيمن النمطية والروتين، وتصبح الحياة العملية فارغة من محتواها الروحي والأخلاقي العميق.

(إذا أخطأ وهو مجتهد، يتعلّم خطوة خطوة، المجتهد إذا أخطأ وهو مجتهد لا بدّ أن يتعلّم) وحين يذكر صاحب السموّ النموذج المجتهد للإنسان فلأنه لا يلتفت إطلاقاً إلى النموذج الكسول المترهل، ولا يسمح له بدخول فريقه العملي، فهو لا يختار إلا أصحاب الهمم العالية والعزائم المتوقدة الراغبة في خدمة الوطن، فهؤلاء هم الذين يضع فيهم سموه ثقته، ويتوجه إليهم بالخطاب، وأما ثقافة الكسل والخمول فهي العدوّ اللدود الذي يجب مواجهته بلا هوادة، لأنّ الكسل طريق زوال الدول، فإذا أخطأ المجتهد فيجب تعليمه برفق وحكمة بحيث ينتقل خطوة خطوة في مدارج السداد والصواب في العمل، ليؤكد ثانية على أن للمجتهد وضعاً خاصّاً يوجب تعليمه والأخذ بيده وعدم تسليمه للخذلان والإحباط، لأن ذلك هو الضمانة الوحيدة لتطوير قدرات الإنسان، وصقل خبراته وإثراء تجربته.

(فلازم أنت تمشي ويّاه، وتعلّمه وتقول له: نعم هذا ربما خطأ، لكن أنت كنت مجتهد، وكل مجتهد في هذه الدولة بيكون له شأن)، وبهذه اللغة الرائعة يختتم صاحب السموّ هذه الومضة القيادية الثمينة، حيث يتوجّب على القائد الإنسان أن يمشي مع أفراد فريقه حين يقعون في الخطأ، ويعزز فيهم الروح الإيجابية، ويحاصر الخطأ الذي وقع منهم ويضعه في سياقه بحيث لا يتمّ تضخيمه الذي ربما أدى إلى الشعور بالإحباط، ولعل التعبير بكلمة «تمشي» في غاية الدلالة على روح الحكمة والرفق الذي يريده صاحب السموّ لكل من يكون قائداً، مع التأكيد على أنّ الإنسان المجتهد له وضعه الخاص الذي يستحق معه مزيداً من الفرص لأنّ المجتهد المخلص في عمله لا يقع منه الخطأ إلا رغم إرادته، وليس من الحكمة تقريعه وتفريغ الشحنة الإيجابية من وجدانه، بل يتم غرس القيمة الكبرى في قلبه وهي أنّ وطنه يحتفي به، وسيكون له شأن أيّ شأن في مسيرة الوطن وتقدم البلاد، فبغرس هذا الإحساس يشعر الإنسان بعمق الانتماء للوطن، وتتجدد فيه القوى والطاقات، ويحرص على إتقان عمله وأداء واجبه على أكمل وجه، ويظل الحس الإنساني المرهف هو ضابط العلاقة بين القادة على اختلاف الأجيال.

Email