التحديات وصناعة الحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيرةٌ هي السبُلُ والوسائل التي يحرص الحكماء والقادة على سلوكها واستثمارها، لاختزان حكمتهم وروعة تجاربهم في الوجدان الإنساني، فقد يكون ذلك على شكل كتابٍ كبير يستوعب أكبر قدر من التفاصيل، وقد يكون ذلك على شكل قصيدة شعرية أو ملحمة طويلة، وربما كان ذلك على شكل لوحة فنية تختزن في داخلها أعمق الأسرار والدروس، وربما كان ذلك على شكل شذرات خاطفة يُودِعها كاتبُها جوهرَ رؤيته للحياة، وهذا الشكل الأخير للكتابة والإبداع هو من أروع ما يسلكه المفكر والمصلح والقائد في هذا العصر السريع الإيقاع في سبيل نشر أفكاره وترسيخها في النفوس، وتحريك الساكن وتجديد العزيمة ونشر الإحساس الإيجابي بالحياة.وحين ننظر في المسيرة الكبيرة الطويلة لصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، نجد أنّ هذه المسيرة حافلة بشتّى مسارات الإبداع التي تمّ التعبير عنها بكثير من الوسائل التي سبقت الإشارة إليها، لكنّ صاحب السموّ ومنذ فترة ليست بالقصيرة اختار نظام الومضة القصيرة لمخاطبة متابعيه الكثيرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وأبدع حقاً وصدقاً في نشر مجموعة متلاحمة من الومضات القيادية التي تستحق أن تكون مجموعة في كتاب مُفرد لكي تستلهم الأجيال ثراءَ التجربة، وعُمق الرؤية ونفاذ البصيرة لدى صاحب السموّ الذي يكتب هذه الومضات من خلال تجربة عملية تشهد له بعبقرية الإدارة وامتلاك روحٍ فذّةٍ في مواجهة التحديات، والعشق المدهش لقهر فكرة المستحيل.

في هذا السياق من الاهتمام بنشر ثقافة التحدّي والإنجاز، نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد على حسابه في «إنستغرام» ومضة قيادية هي غاية الغايات في روعة المضمون الذي جاء مترجماً عن اللغة الانجليزية، حيث ألقاها صاحب السموّ بنبرته الواثقة، مصحوباً ذلك كله بمجموعة من الصور الرائعة التي تشهد بضخامة المسيرة وفخامة الإنجاز في بلادنا التي تشهد مسيرة غير مسبوقة في التقدم والتحديث، حيث أبدع صاحب السموّ في بلورة فكرة التحدي التي هي في نظره جوهر الحياة النشيطة، حيث ختم الومضة بقوله: «الحياة مُملّة بدون التحديات».

وقبل الشروع في تحليل المحتوى الثمين لهذه الومضة يطيب لي أن أشير إلى تجذّر فكرة التحدي في قلب وعقل ووجدان سموه، وأن اقتطع جزءاً من كلام له على هذه الفكرة الحيوية وردت في الفصل الأول من كتابه العميق «رؤيتي: التحديات في سباق التميز» قال فيها: «يجب أن أعترف أننا في الإمارات نستمتع بالتحديات، وجود الإمارات تحدٍّ، وتاريخها تحدٍّ، ونموّها واستمرارها واحدٌ من أهم التحديات في الخليج وباقي الوطن العربي. إذا كان القائد مؤمناً بربه، ثم واثقاً بشعبه ونفسه، فلا شيء في التحديات يُخيف، بل على العكس، إنها تشحذ الهِمم وتُفَوْلذُ العزيمة، وتطلق شرارة الإبداع في الإنسان؛ لذا ما رأيت في حياتي تحدياً إلا وجدت في نفسي الرغبة لقهره، واندفعتُ إليه بلا تردد، وأعتبر نفسي محظوظاً لأني أعيش في عصر مثير مليء بالتحديات»، لتكون هذه الكلمات المنيرة هي خلاصة الخلاصات فيما يتعلق بجميع تجليات فكرة التحدي في فكر صاحب السموّ وفي جميع مسارات الحياة.

(عليك أن تُحدّد المساحة التي تودّ أن تتحرك فيها) بهذه النصيحة الإرشادية التي تقترب من فعل الأمر لدلالة لفظ «عليك» على معنى الأمر، يفتتح سموه هذه الومضة القيادية، فبدون تحديد مساحة الحركة لا يمكن ضبط طبيعة التحرك وسيندفع الإنسان نحو آفاق مجهولة ربما تضيع معها بوصلة العمل ويفقد القدرة على تحديد الاتجاه، وهي الخطوة الضرورية التي يحتاج إليها الإنسان في جميع الأعمال، ابتداء من كتابة بحث صغير، وانتهاء بإرسال بعثة فضائية إلى المريخ، فالحدود الزمانية والمكانية للعمل هي التي تساعد على وضع الخطة الصحيحة للتنفيذ، لأنها تكشف عن طبيعة الرؤية ومداها التي يسير عليها الإنسان.

(فهناك من يمتلك الرؤية، وهناك من لديه رؤى محدودة ويعمل ضمن إطار ضيّق) وامتلاك الرؤية الصحيحة هو ثمرة التحديد الدقيق لمساحة العمل، والعلاقة بينهما علاقة طردية فكلما اتسعت الرؤية اتسع نطاق العمل، والعكس صحيح، والناس في نظر صاحب السموّ نوعان: فهناك الإنسان المُخطّط الذكي الذي يمتلك الرؤية الكاشفة الرحبة التي تتجاوز حدود المنظور لاستشراف المستقبل، وتوظّف كل إمكانيات الحاضر من أجل ضمان الزمن القادم، وهذا النمط من الرؤى هو الذي يُعتمد عليه في التخطيط ورسم صورة الحياة وابتكار أنماط التقدم، ليقابله نوعٌ آخر من الناس هم الذين يصدرون عن الرؤية الضيقة المترددة التي لا تعرف المغامرة ولا تمتلك روح الجرأة في اتخاذ القرار وتحسب الحساب المذعور لكل شيء، فهؤلاء ليسوا من صُنّاع القرار ولا قادة التقدم، وربما كانوا عنصر إعاقة في طريق التقدم الحقيقي للوطن والإنسان.

(أما نحن، فرؤيتنا هي أن نكون في المرتبة الأولى، سواء كان ذلك في الخطوط الجوية أو الخيول أو غيرها)، وهذه الجملة قد وضّحها صاحب السموّ بقوله في كتابه «رؤيتي: التحديات في سباق التميز» بقوله: «لأنك إن لم تكن في الطليعة فأنت في الخلف، إن لم تكن في المقدمة فأنت تتنازل عن مكانك الطبيعي لصالح منافس آخر ربما كان أقلّ منك مقدرة واستعداداً وإبداعاً» لتصبح هذه الرؤية التقدمية هي جوهر التفكير في هذا الوطن الجميل، حيث يتجلى ذلك في جميع مسارات الحياة، وقد ضرب صاحب السموّ مثلاً لذلك في الخطوط الجوية باعتبار ذلك تقدماً في الأعالي لا ينازعنا فيه أحد، حيث يحتل طيران الإمارات المرتبة الأولى، ويتفوق على كثير من الدول المتقدمة في الدقة وطبيعة الخدمة، وكذلك في رياضة الخيول التي هي عنوان القوة والتحدي، حيث تنتزع الإمارات من خلال كأس دبي العالمي لسباق الخيول والسباقات الأخرى في العالم زعامة الخيل العالمية بكل كفاءة واقتدار ودون أدنى محاباة، وليس الأمر مقصوراً على هذين المجالين، بل هناك العديد العديد من المجالات التي أثبتت فيها الإمارات أنها الرقم الصعب واستحقت فيها الريادة والمركز الأول.

(يجب أن تنفّذ رؤيتك، اغتنم الفرص، تمسّك بالفرص ولا تتخلّ عنها، اغتنم الفرص قبل الآخرين)، وفي هذا المقطع تعلو نبرة الإرشاد لدى صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد لكي تؤكد ضرورة التمسك بالفرصة وتنفيذ الرؤية الخاصة بالإنسان، فالإنسان في جوهره هو رؤية وبمقدار ما تتسع هذه الرؤية بمقدار ما يتسع إنجازه ويكثر عطاؤه، وهذا يعني بالضرورة أن يكون متيقظاً للفرص التي تلوح له فلا يفرّط بها، لأن النهر نفسه لا يجري مرتين على حسب تعبير صاحب السموّ، وليس ذلك فقط، بل يجب أن يتم اغتنام الفرص قبل الآخرين وهذا يعني دوام اليقظة والبحث بعين الصقر عن منابع الفرص لتفجيرها، والاستفادة من مائها العذب الزلال.

(الحياة مُملّة بدون التحديات) وهذا هو جوهر هذه الومضة القيادية البديعة، فالحياة تدخل في مدار الروتين الممل، حين تخلو من التحديات، وإنّ استعراض تاريخ الإنجاز البشري الرصين هو عبارة عن استجابة العقل الإنساني لواقعة التحدي، وهو ما يُسمى في التحليل التاريخي «التحدي والاستجابة» لتكون هذه الومضة القيادية الثمينة بمثابة المنارة التي تضيء الطريق في عرض البحر الصاخب بالأمواج وهدير البواخر وضجيج العواصف والرياح.

Email