لا تشترط الحصاد!

ت + ت - الحجم الطبيعي

من مصائد النفس «الضعيفة» أنها تشترط المنفعة الشخصية للقيام بأي عمل، وأنّ حماسها يفتر إنْ شعرت أنّ تعبها وبدايتها لذلك العمل قد لا يتسع العمر لرؤية نُضجه وتمامه ثم الاستفادة منه، فهي تريد تحكّماً في النهايات حتى تُقْدِم على البدايات، وترى أنّ جُهْدها لا بد له أن يؤتي ثماره لها، ولو جزئياً، لا أن تذهب الثمار لآخرين لم يتعبوا عليه!

هذا المنطق منطق نفعي بحت، لا يجدر بالإنسان المسلم أن يعتقده أو يكون له أثر على تصرفاته، فالنية النفعية تسلب الخير من العمل وتُذْهِب الثواب عليه، وقد جاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».

تعلمنا من تاريخنا وأسلافنا العظماء دروساً في العطاء غير المشروط، وفي فعل الخير لأجل الخير وليس للتكسّب منه، فمحمد صلى الله عليه وسلم، لم يرَ قصر المدائن ولا قصور بُصرى ولا رصافة دمشق ولا كرخ بغداد ولا زهراء قرطبة، ولم تُجْبَ له الثروات من مشارق الأرض ومغاربها، ولم يرَ دينه ينتشر في طول المعمورة وعرضها والناس تدخل فيه أفواجاً، فهو لم يشترط ذلك على ربه سبحانه ولم يمر بباله إطلاقاً، بل كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما تألم لرؤية الحصير وقد أثّر في جنبه صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لي وما للدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها»، فالثواب المبتغى هو ما عند الله سبحانه في الآخرة، أما الدنيا فيعمل المؤمن بها الخير لوجه الله تعالى وليتأسى به غيره من الناس، فتنتشر الخيرية بين البشر وتعمر بهم الأرض ويعمّ بذاك العدل.

سميّة أم عمار وزوجها ياسر وعمير بن أبي وقاص ومصعب بن عمير وعمرو بن الجموح وحمزة بن عبدالمطلب وحنظلة بن أبي عامر وأمثالهم ممن لاقوا ربهم قبل أن ترتفع راية الإسلام وتتوطّد أوتاد دولته، رحلوا وقلوبهم مطمئنة بأنّهم قد أدّوا حق الله عليهم ما استطاعوا، ولم يشترطوا منفعة أو مالاً أو منصباً أو جاهاً في هذه الحياة الدنيا، يحدو الجميع قوله صلى الله عليه وسلم: «صبراً آل ياسر فإنّ موعدكم الجنّة» !

رحلوا مطمئني «الضمير» ولم يروا على ضعف القوة حينئذٍ قتيبة على أبواب سور الصين العظيم، ولا عنبسة بن سحيم على مشارف باريس، ولم يروا على جوعهم عمر بن عبدالعزيز يأمر بأنْ يُنثر القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طيرٌ في بلاد المسلمين، ولم يسمعوا على تمالئ مشركي العرب واليهود عليهم هارون الرشيد وهو يقول للسحابة: «أمطري أنّى شئتِ فسيأتيني خراجك»، ولم يشفِ غليل انكسارهم كتاب الرشيد لنقفور عندما بعث له بكتاب متوعّد فقال له: «من هارون أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما تراه لا ما تسمعه يا ابن الكافرة».

رحل أولئك العظماء بعد أن بذروا الخير وتعاهدوه جهدهم ما داموا أحياء، ولم يكتنفهم الحزن أو يعتريهم الإحباط لكون ثمار جهودهم لم تنضج ولم يستفيدوا منها ما داموا أحياء، فما عند الله لأهل الخير أكبر كثيراً من كل منافع الدنيا، والخير كل الخير أن تعمله دون اشتراط عائدٍ أو نصيبٍ من حصاده.

لا يجب أن يكون فعل الخير سلوكاً نختار أن نقوم به حيناً ونتركه حيناً، بل الواجب أن يكون مبدأ حياة لا يتوقف عنه الإنسان ما دام في قلبه نبض وفي أيامه بقية، وهو خيرٌ لا يُحصَر بمكان أو فئة، بل يُبذَل للجميع، فمن كان أهلاً للخير فقد نال ما يستحق، وإن لم يكن أهلاً له فعسى أن يتغيّر، ولو أُخِذَت الدنيا بالشدة لما استقامت أمور الناس، ولو لم يُفعَل الخير إلا لمن يهمنا أمره لما تبدّدت العداوات ولانت القلوب، ولو لم يُفعل إلا مشروطاً بالمنفعة الشخصية ما جاع محمد صلى الله عليه وسلم وما قُتِلت سُميّة ولا مُثِّل بجثة حمزة.

Email