كما لو أنه إنفلونزا

ت + ت - الحجم الطبيعي

تأتي رؤية سنغافورة الجديدة في التعامل مع فيروس كورونا المستجد كما «لو أنه إنفلونزا» موسمية متسقة مع القاعدة الصحفية التي تقول: «كلب عض رجلاً، ليس خبراً. رجل عض كلباً، هو الخبر».

رؤية سنغافورة الجديدة في التعامل مع فيروس كورونا المستجد كما «لو أنه إنفلونزا» موسمية تتمثل في أن تتوقف البلاد عن احتساب عدد الإصابات اليومية كوسيلة للتعامل مع الوضع الجاري، وأن يتم إلغاء عمليات الإغلاق وتتبّعِ الاتصال الجماعي، والسماح بالعودة إلى السفر الخالي من الحجر الصحي، واستئناف التجمعات الكبيرة، واقتراح نموذج للعيش مع الفيروس وكأنه إنفلونزا، وحضّ الناس على المسؤولية الاجتماعية كي تعود الحياة إلى طبيعتها مثلما كانت قبل الجائحة.

هذه الرؤية تأتي على خلاف جاراتها من الدول الآسيوية التي ما زالت تفرض الإغلاق التام وتترصد للفيروس، ما تحوّر منه وما لم يتحور بعد.

الرؤية التي تبناها ثلاثة أعضاء من اللجنة السنغافورية للتعامل مع «كوفيد 19» تُعدّ خروجاً جذرياً عن ما يسمى بنموذج «الانتقال الصفري» الذي اعتمدته العديد من البلدان والأقاليم، بما في ذلك مركز الأعمال الآسيوي المنافس هونغ كونغ، والتي أثبتت حتى الآن نجاحها في تجنب تفشي المرض على نطاق واسع.

لكن نموذج «الانتقال الصفري» هذا، الذي يتطلب إجراءات حجر صارمة وفرض العقوبات في كثير من الأحيان، سيكون من المستحيل تقريباً الحفاظ عليه مع انتشار السلالات الجديدة، وعلى المدى الطويل هو غير مستدام، كما يزعم أعضاء لجنة فيروس كورونا السنغافورية، الذين يرون أن البديل هو التعايش مع الفيروس.

من الناحية العاطفية، وبالعودة إلى فكرة الأمنيات التي يضع كل واحد منا في خزانتها رصيداً كبيراً، على أمل أن تعود الحياة إلى سيرتها الأولى في الأجل المنظور، تُعدّ هذه الرؤية شجاعة وثورية إلى الحد الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه شجاعة البشر وثوريتهم أمام جائحة بهذا الحجم، كما أنها انعكاس لرفضهم الواقع الذي تحول إلى كابوس شديد الوقع على النفوس والأبدان في كل البلدان.

أما من الناحية الواقعية فتُعدّ هذه الرؤية متهورة إلى أقصى حدود التهور الذي يمكن أن تصل إليه مجموعة من البشر مخاطِرةً بحياة أفرادها وحياة من هي مسؤولة عنهم، وبالأجيال التي تنظر إلى مستقبل مجهول فرضته عليها تجربة أكثر من ثمانية عشر شهراً من المعاناة في أمور الحياة كافة، بدءاً من الدراسة التي غدت نوعاً من المعاناة، وانتهاءً بأبسط متع الحياة التي أصبح محرماً عليهم الاقتراب منها دون الالتزام بالإجراءات والاحترازات التي تفرضها الجائحة بأشكالها المختلفة وشروطها المشددة.

لا شك أننا جميعاً نتمنى أن تنجح رؤية سنغافورة في التعامل مع فيروس كورونا المستجد كما «لو أنه إنفلونزا» موسمية، يكفي الإنسانَ كي يحمي منه نفسه أن يأخذ اللقاح المقرر له في الموعد المحدد من كل عام، ثم يذهب إلى ممارسة شؤون حياته اليومية، وينفذ خططه دون أن يشعر بالقلق الذي مازلنا نشعر به رغم مرور أكثر من عام ونصف على ظهور الفيروس وتحوله إلى جائحة تلف كل أنحاء الدنيا، لكنها لا تعود إلى البلد الذي خرجت منه، وكأنه أصبح في مأمن منها، على خلاف كل البلدان التي استوطن فيها، وأخذ يتوالد فوق أراضيها، ويتحور فيها منتقلاً من طور شديد إلى طور أشد، والناس في رعب مما هو أسوأ من الحاضر، وأشد غموضاً من الماضي.

تذكرت وأنا أقرأ الخبر المنشور عن رؤية سنغافورة حكاية الفئران التي كانت تعيش في سلام، لا يشغلها شيء، حتى ظهر لها هرٌّ أخذ يتصيدها واحداً بعد الآخر، متخذاً له مكاناً خفياً ينقض عليها منه قبل أن تنجح من الإفلات منه.

وعندما اجتمعت الفئران وتوصل كبير حكمائها إلى فكرةِ أن يعلقوا في رقبة الهرّ جرساً، حتى إذا أقبل من بعيد سمعوا جلجلة الجرس فسارعوا إلى الاختباء منه. استحسن الجميع الفكرة، ثم كان السؤال هو «من سيعلق الجرس في رقبة الهر؟». سكت الجميع، واحتاروا في الجواب، لأنهم يعلمون أن من سيعلق الجرس قد يصل إلى فم الهرّ قبل أن يصل إلى رقبته.

هل تمضي سنغافورة في تنفيذ رؤيتها، فتقرر أن تكون هي البلد الذي يعلق الجرس في رقبة الفيروس؟

بغض النظر عن حكمة هذا القرار من عدمها، نتمنى أن يصل أي بلد إلى رقبة الفيروس قبل أن يزهق المزيد من أرواح البشر.

Email