مواجهة مؤجلة.. شراراتها ستنطلق لاحقاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشهد الدولة العراقية أوضاعاً غير طبيعية منذ زمن يرجع إلى حقبة النظام السابق، وبالتحديد منذ فُرض الحصار عليها منتصف عام 1990 إثر غزوها للكويت، حيث بدأ الضعف يسري في أوصالها، وبدأ العجز وأحياناً الشلل يتسرب إلى قبضتها وبدأت بوادر الفساد تنمو في تربتها. إلا أن ما بدأنا نلمسه في السنوات الأخيرة شأن مختلف فيه الكثير مما يستوجب التوقّف عنده، خصوصاً في ظل كثرة الأحاديث عن «غياب» هذه الدولة أو «تهميش» وجودها، رغم أن هياكلها الدستورية موجودة وأفرادها قائمون بمهام واجباتهم، إلا أن إرادتها قد سُلبت لصالح إرادات جهات أخرى، فرضت نفسها بقوة ميليشيات مسلحة تدين بالولاء لغير العراق كتحصيل حاصل للصراعات الإقليمية التي راح ضحيتها الدولة العراقية وكل شعبها بمختلف مكوّناته وشرائحه كواحدة من أبرز تداعيات الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.

في سياق التحليلات لهذه الظاهرة شاع في الأوساط السياسية مصطلح «اللا دولة»، مصطلح غريب لا وجود له في معجم العلوم السياسية، إلا أنه ليس من الصعب استيعابه وتقبّله لتفسير وتفهّم واقع الحال الذي يمر به عراق اليوم فهو، أي المصطلح، توصيف لحالة الضياع، ولا أريد قول غير ذلك، التي تتصف بها الطبقة السياسية الحاكمة، ولحالة تفكّك الدولة العراقية وتبعية الأجزاء المفكّكة إلى مرجعيات سياسية متعددة محلية أو إقليمية أو دولية.

عجزت الحكومات المتعاقبة في العراق عن مواجهة سطوة هذه الميليشيات الولائية التي عبرت عن سطوتها على مسارح الابتزاز والاغتيال والخطف والتغييب القسري، ولاحقاً على أبرز مسارحها على الإطلاق مسرح التصدي لانتفاضة أكتوبر 2019، واغتيال ما يزيد على سبعمائة من شبابها وجرح الآلاف منهم.

المواجهات الجدية مع هذه الميليشيات بدأت بحذر شديد مع مجيء مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزارة، تحت ضغوطات انتفاضة أكتوبر بالعمل على استرجاع هيبة الدولة التي مُسخت في عهد أسلافه، عبر التصدي لممارسات هذه الميليشيات التي تتستر بغطاء الحشد الشعبي. إلا أن الحكومة تراجعت أكثر من مرة، مما أضعف إلى حد كبير الثقة بقدراتها على التصدي لهذه المهمة.

فهذه الميليشيات ومع كل مواجهة مع الدولة تعمد على فرض حضور عسكري في أروقة المنطقة الخضراء وقرب مداخلها، وتحرص على عرض ذلك إعلامياً لتبيان مدى سيطرتها على هذه المنطقة الحساسة، وعلى مدى عجز الدولة عن مواجهتها، وهو سلوك فيه الكثير من النزق وقصر النظر، فالدولة والقائمون على رئاستها تزن الأمور بموازين أخرى تتوخى من خلالها الابتعاد عن هدر الدم العراقي.

وفي الوقت الذي تتابع القوى السياسية هذه المسرحيات المقلقة، تحرص على الابتعاد عن الخوض بتفاصيلها، لأسباب تتعلق بمصالحها وليس بمبادئها على الرغم من أن الرئاسات الثلاث أصدرت، على استحياء، في الثامن والعشرين من مايو المنصرم بياناً أكدت فيه ضرورة حصر السلاح بأجهزة الدولة، وهي دعوة غير مباشرة للتصدي لهذه الميليشيات.

الوضع الاستثنائي القائم في العراق، لا يمكن أن يدوم حتى لو استمر لبضع سنوات أخرى، لأن الاستثناءات لا يمكن أن تصبح قاعدة وسيناريو الهيمنة الحوثية في اليمن لا يمكن أن تستكمل فصوله الميليشيات الولائية في العراق، فالدولة في النهاية ستعود لفرض حضورها كاسحة هذه الميليشيات الولائية وملغية لجميع الأطر القانونية التي منحتها شرعية الحضور وحمل السلاح. فهذه الميليشيات ليس لها القدرة على الدخول في مبارزة حقيقية مع الدولة، فذلك خيار انتحاري لها، فالدولة إن حان حين التلاقي، الذي يبدو أنه لم يعد منه بد خصوصاً بعد أن وسعت هذه الميليشيات نطاق نشاطاتها ليشمل استهداف بعض القواعد العسكرية والمطارات بالصواريخ والطائرات المسيّرة، قادرة بحكم تفوّق قواتها العددي وميزة قدراتها التسليحية ومهاراتها الاحترافية على حسم الصراع لصالحها، ناهيك عن قدراتها عبر صلاتها الدولية على الحصول على دعم إقليمي أو دولي استخباري أو عملياتي لأجل تحقيق ذلك عند الحاجة.

وحين تُقدم الدولة على ذلك، فإنها ستحظى بدعم عربي ودولي كبير، وستحظى من غير أدنى شك بأقصى درجات الإسناد الشعبي في عموم العراق، فالميليشيات الولائية أو قوى «اللا دولة» هذه تنتشر في معظم المحافظات، وتعمل على ابتزاز مواطنيها وفرض رؤاها وسلوكياتها المنحرفة.

*كاتب عراقي

Email