عود مفهوم لنظرية المؤامرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يشير المعجم إلى أن «نظرية المؤامرة» هي الاعتقاد العميق بأن منظمة سرية، لكن ذات نفوذ كبير، مسؤولة عن حدث غير قابل للتفسير.

وقد نشأت أجيال توارثت مفهوم نظرية المؤامرة حتى بات منظومة قائمة بذاتها، ووسيلة لتبرير ما هو غير صالح للتبرير خارج حدود التقصير والإهمال والتقاعس. وكانت النتيجة أن فقدت «نظرية المؤامرة» ثقلها ومصداقيتها وأصبحت أشبه بـ«الذئب» في قصة الصبي الذي أفرط في الكذب على أهل القرية، والادعاء بأن الذئب يهاجمه فيهرع الجميع لنجدته ليكتشفوا أنه يمزح، حتى إذا جاء الذئب فعلياً، لم ينجده أحد.

واليوم وبينما يقف العالم في خضم وباء لم يترك ركناً في الكوكب إلا وبسط سطوته وفرض هيمنته، بدأ البعض ينقب في أصل الوباء ومن أين جاء. صحيح أن الأسابيع الأولى من عمر الوباء شهدت هرولة هنا وهناك لتوجيه أصابع الاتهام المسيسة، أو ذات الصبغة الدينية أو الثقافية، لأطراف بعينها، لكن يبدو أن حدة الوباء وعدم تفرقته في الفتك بالبشر، ألهت الجميع مؤقتاً عن الإغراق في النظرية.

هذه الأيام، قلّب الرئيس الأمريكي بايدن المواجع وأعاد فتح بوابة نظريات المؤامرة المغلق تحت وطأة مجريات الوباء. قبل أيام أمر بايدن الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية بإعداد تقرير وافٍ حول منشأ وباء «كوفيد 19» خلال 90 يوماً من تاريخه!

ما أمر به الرئيس الأمريكي ليس مجرد تقرير استخباراتي عادي. فالعبرة منه ليست في النتائج التي يتوصل لها، بل في النتائج السياسية التي ستسفر عنها نتائج التقرير. وقد بدأت ملامح النتائج في التبلور قبل مضي ساعات على صدور الأمر. فطالما أن أمريكا طلبت تحقيقاً في شأن «كوفيد 19»، فهذا يعني أن الصين باتت ضالعة في فصل جديد من فصول المواجهة مع أمريكا.

عموماً المواجهة قادمة قادمة. الأمر فقط يتعلق بالتوقيت. البعض يعلق ساخراً أو خالطاً الجد بالسخرية بأن تأجج نظريات المؤامرة بمثابة المنقذ من غرق الملايين في اكتئاب الجائحة، أو المخلص من ملل الإفراط في إفتاءات منصات التواصل الاجتماعي في كل شيء وأي شيء من الإبرة للصاروخ. ستجد الملايين ما يملأ أوقاتها ويؤجج حماسها، ويشعل بؤر النقاش والجدال عبر صولات وجولات التراشق السياسي بين القوتين.

نحن موعودون إذن بعودة قوية لنظريات المؤامرة، وما يصحبها من إثارة وتشويق، وما ينجم عنها من تهديد ووعيد. وحين تكون نظرية المؤامرة على هذا المستوى الرفيع بين الدول، فإن متعة الإثارة والمتابعة لا تتوقف عند حدود حلبة الدول المتناحرة فقط، بل تمتد إلى المشاهدين والمشجعين الذين سيجدوا أنفسهم – شاءوا أم أبوا - لاعبين ولو في أدوار مساعدة أو ثانوية.

ثانوية الأدوار لا تفسد المتعة، بل ربما تعطيها مساحة أكبر. فهي تمسح بالتحليل والتدقيق في الأجواء، وهي رفاهية قلما تتوافر للأطراف الرئيسية. فعلى سبيل المثال، يعود دور الصحافة إلى سابق عهده الذهبي باعتباره صانع الأحداث الكبرى وموجه المجريات العظمى.

في يوم 23 مايو نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية تقريراً عنوانه «سؤال تسرب معمل ووهان: منجم صيني غير مستخدم يحتل مركز الصدارة» ويشير إلى مرض ستة من عمال المنجم بمرض غامض في عام ووفاة ثلاثة منهم في عام 2012، وذلك بعد دخولهم المنجم لتنظيف فضلات الخفافيش. تم استدعاء علماء من «معهد ووهان للفيروسات» لأخذ عينات من الخفافيش، وثبت وجود العديد من فيروسات «كورونا»، لكن ظل العديد من الأسئلة بدون إجابات.

في اليوم نفسه، نشرت الصحيفة نفسها تقريراً آخر يرتكز على تقرير للاستخبارات الأمريكية يفيد بأن ثلاثة باحثين من المعهد نفسه أصيبوا بمرض ما في نوفمبر 2019 ذي أعراض مشابهة لـ«كوفيد 19»، وأن هذا قد يعني تسرب الفيروس من أحد المعامل!

تقارير الصحيفة الأمريكية فتحت أبواب الفصل الجديد من فصول التراشق بنظرية المؤامرة. الأمر الذي أصدره بايدن، تبعه بيان عاجل شبه غاضب من سفارة الصين لدى أمريكا. حذر البيان من أن «تسييس منشأ كوفيد 19» من شأنه أن يعرقل سير التحقيقات، وأن الصين تدعم إجراء دراسة شاملة لكل الحالات المبكرة لـ«كوفيد 19» التي ظهرت في جميع أنحاء العالم وإجراء تحقيق شامل في «بعض القواعد السرية والمختبرات البيولوجية في جميع أنحاء العالم».

في الوقت نفسه، رفع «فيسبوك» حظره عن المنشورات التي تشير إلى أن «كوفيد 19» قد يكون من صنع الإنسان، وهي المنشورات التي كانت تحذف حتى أيام قليلة مضت، باعتبارها منقوصة الأدلة. ورغم أنها تبقى حتى اللحظة منقوصة الأدلة، إلا أن تزامن الأحداث مثير.

العالم موعود بحقبة جديدة في كنف الوباء، لكن فيها من الإثارة وإعادة لإحياء نظرية المؤامرة ما يكفي لدرء الملل.

 

*كاتبة صحافية مصرية

Email