القدس قضيتي

ت + ت - الحجم الطبيعي

وقف رجل حسن المنظر والهندام أمام سقراط يتبختر ويتباهى بلباسه وهيئته، فقال له سقراط: «يا هذا، تكلم حتى أراك»، لأن من يكسو ظاهره بأجمل الحُلَل ويترك داخل روحه أو باطن جمجمته خاوياً ينعق فيه البوم، حريٌ به أن يراجع نفسه، لأنّه قد ضلّ الطريق ضلالاً بيّناً.

جمعتُ بين الروح والذهن، لأنّ الإنسان قد يكون جاهلاً أو ضعيف التأهيل وهذا رغم قصوره وما قد يخرج عنه من مواقف أو سلوكيات تحتاج إلى تصويب، إلا أنّه خيرٌ من «خاوي الروح» الذي يدّعي أنّه حاز علماً أو قد يُصرّ دائماً على وضع لقب أمام اسمه، لكنه يقف على الدوام مواقف مستهجنة عندما يتعلق الأمر بثوابت الأمّة وهويتها وقضاياها، ويكثر في ذلك التشغيب، ويؤلب رفاقه ليُخيِّل للآخرين أن هذا هو الصواب وما يجب أن يعتقدوه!

تسمّمت نفوسنا من مجموعة تناثرت هنا وهناك كان لها موقف مخزٍ خلال حرب غزة، وصُدمنا بلهجة الفرح بما يفعله المحتل بإخوانه تحت ادعاء أنّهم يستحقون ذلك بسبب ذلك الفصيل أو تلك الجماعة، وخرج بعض شُذّاذهم ليلقي بالتُهَم والأكاذيب على ذلك الشعب العظيم الصامد، من ادعاءات بيعهم لأراضي فلسطين لليهود، ومن حسدهم لثراء الخليج، ونكرانهم لأفضالنا عليهم، رغم أننا في سنين الحاجة في القرون السابقة لم يقفوا معنا، وتفنّن البعض في إخراج صور لبعض قادة الحكومة الفلسطينية وهم يعيشون حياة رغيدة مع بعض التعليقات السمجة عليها.

فلسطين ليست مجرد حدود جغرافية أو خارطة تُوضّع على الجدران، أو كلمة أصبحت تتلاشى من حصص التدريس قبل أن تنساها البرامج التلفزيونية السياسية وهي الأكثر من الهم على القلب، ففلسطين لمن ظن جميع العرب والمسلمين مثله هي دلالة بقاء الضمير حيّاً، فما دام في النفوس دين، وما دام في الروح مروءة، وما دام في الشرايين دمٌ عربي شريف، ستبقى فلسطين ينبض بها قلب كل حُر، وستبقى القدس مهوى لقلوب العرب، كيف لا وأجدادهم القدماء هم مَن بناها، ومِنها خرج وبها مرّ الأنبياء والمرسلون، وفي أقصاها مرّ سيد البشر، صلى الله عليه وسلّم، وأمّ بها الأنبياء في خصوصية لم يجعلها الله سبحانه لأي مدينة أخرى.

الفلسطيني ليس ذاك الذي تصوّره النفوس المريضة والضمائر الميّتة والأرواح الممسوخة، فالفلسطيني هو من علّمنا فكان خير مُعلّم، وهو من عملنا معه فكان خير زميل، وهو من جاورنا فكان خير جار، وهو مَنْ أبناؤه وأحفاده يلعبون مع أبنائنا ولا نرى بينهم فرقاً، وكما أنّ الخارجين على أخلاق العرب، بل وعلى أبجديات الإنسانية، لا يمثلوننا، فكذلك مَن شَذَّ عن خُلُق الفلسطيني الأصيل لا يمثلهم ولا يصحّ تعميمه عليهم، ولا يد لهم إنْ كان الفساد دبّ في ساستهم فامتلأت كروشهم وجيوبهم على حساب شعب أبيّ، لا يزال مرابطاً في مقدساته وقد زفّ إلى السماء آلافاً مؤلفة من الشهداء شيباً وشباباً وأطفالاً.

أين ستجد شعباً صامداً رغم كل الاعتداءات الهمجية، بدءاً من أول يوم لعصابات الهاغاناه الدموية وحتى آلة الحرب الإسرائيلية المتقدمة حالياً، ورغم التدمير والتهجير القسري والخطف والسجون المليئة بالأبطال الشرفاء، ورغم خذلان الدنيا لهم وسكوت كل الكبار عن رفض إسرائيل لتنفيذ أي من قرارات مجلس الأمن، التي لا تُعَد ولا تُحصى، رغم كل شيء، لا يزال هذا الشعب محباً لأرضه وفياً لها، كلما أتى جيلٌ جديد وظنّوا أنهم مسخوا فكره، خرج لهم بنزعة وطنية تفوق ما كان يحمله أسلافه، ورغم تمالئ الدنيا عليه بما فيها منصات التواصل الشهيرة كـ«فيسبوك»، واجتهادات المرجفين ومحاولاتهم لتغيير مناط القضية لتبدو أنها دفاعاً عن حزب أو فصيل، إلا أنّ ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية كان منعطفاً عظيماً كشف الكثير من الأوراق، وأهمها هشاشة إسرائيل وبدء انفضاض المؤيدين عنها.

ثلاثة وسبعون عاماً ولا تزال القدس في ضمير كل عربي ودعاء كل مسلم، وهي قضية كل فردٍ منهم، ثلاثة وسبعون عاماً ولا يزال أحرارها أوفياء لها، يفدونها بأرواحهم وسيبقون كذلك مهما خذلهم النصير وجافاهم القريب، فوعد الله آتٍ لا محالة: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).

* كاتب إماراتي

Email