الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

وصلت العلاقات الأمريكية العراقية إلى أدنى مستوياتها بعد مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس مطلع يناير 2020، وإصدار مجلس النواب العراقي إثر ذلك، قراراً مثيراً للجدل حول مدى شرعيته، يقضي بخروج القوات الأمريكية من الأراضي العراقية.

فقد بدأت المصالح الأمريكية في العراق تتعرض إلى العديد من التجاوزات ما حدا بواشنطن طلب إجراء حوارات استراتيجية مع بغداد حول مستقبل العلاقة بينهما. وحين طرحت واشنطن مصطلح «استراتيجية» فذلك يعني حوارات على درجة كبيرة من الأهمية، سواء في القضايا التي سيتم التطرق إليها، وفي الأطر الزمنية للتوافق عليها.

«الاستراتيجية» لا تعني رسم سياسات قصيرة الأمد، ولا تعني تبني حلول آنية. لم يوضع إطار زمني محدد لهذه الحوارات، التي بدأت في منتصف يونيو 2020 بمستويات ما دون وزراء الخارجية، في مؤشر على الرغبة في عدم تسليط الكثير من الضوء عليها وعلى مخرجاتها، وانتهت الجولة الثالثة وليس الأخيرة منها برعاية وزيري خارجية البلدين منذ بضعة أيام. 

سبق أن وقع العراق عام 2008 اتفاقيتين مع الولايات المتحدة، الأولى «اتفاقية صوفا» والثانية «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، انتهت الأولى مع انسحاب القوات الأمريكية في ديسمبر 2011، أما الثانية فهي اتفاقية واسعة جداً لا تقتصر على الجوانب الأمنية، بل تتجاوز ذلك إلى قضايا سياسية ودبلوماسية وثقافية وتعليمية وبيئية وغير ذلك، ولا يحددها سقف زمني.

حيث ورد في أحكامها الختامية في القسم الحادي عشر من ديباجتها ما نصه بأنها «تظل سارية المفعول ما لم يقدم أي من الطرفين إخطاراً خطياً للطرف الآخر بنيته على إنهاء العمل بهذه الاتفاقية، ويسري مفعول الإنهاء بعد عام واحد من تاريخ هذا الإخطار». 

الحوار بين دولتين إحداهما تمتلك اليد العليا، وإلى حد بعيد على مقدرات الدولة الأخرى، ليس من المتوقع أن تكون مخرجاته مرضية لمن يترصد الطرف الأضعف ويثقل كاهله بالمطالب. لنتجاهل هذه الحقيقة ونقول إن نجاح الحوار الأمريكي العراقي، والتوصل إلى توافقات، بحاجة إلى مدخل واقعي لرؤية الفوضى السائدة في المنطقة بأطر إيجابية تتجاوز الواقع العراقي وتتجاوز آنية المشكلات المطروحة في ساحاته. 

صقور العملية السياسية يصرون على جعل إنهاء الحضور العسكري الأمريكي، وهو حضور محدود، على رأس أولويات الحوار في ضوء قرار مجلس النواب، الذي سبق أن أشرنا إليه، وهو قرار ليس بقدرة المسؤول العراقي الذي يجلس على مائدة الحوار تجاهله.

إلا أن ما هو في صالح العراق في هذه المرحلة، هو تفعيل «اتفاقية الإطار الاستراتيجي» بين الطرفين، وليس اقتصار الاهتمام على الجوانب الأمنية والعسكرية، فالعراق بأمس الحاجة إلى النهوض واستعادة وضعه الإقليمي الفاعل من أجل إعادة التوازنات في المنطقة إلى ما يضمن سيادة الأمن واستقرار حقيقي في ربوعها.

فمنذ سقوط النظام السابق في 2003، وما ترتب على ثمانية عشر سنة من العمل الدؤوب في جميع نواحي الحياة، نجحت إيران في تشكيل شبكة «ولائية» واسعة تستخدمها في فرض نفوذها في العراق، ليس باعتباره قاعدة وسوقاً يعزز اقتصادها المتهالك، ويساعدها على التخفيف من العقوبات المفروضة عليها، بل باعتباره، وهو الأكثر أهمية، جسراً إقليمياً لا بديل عنه للتمدد نحو البحر الأبيض المتوسط لتحقيق أبرز أحلامها، وهو التحول إلى القوة العظمى الوحيدة في المنطقة.

من جانب آخر، يعتبر تعافي العراق وحضوره إقليمياً ذا أهمية استثنائية في استراتيجية الولايات المتحدة واستراتيجيات الدول العربية لاحتواء إيران وحصر تمددها، لا يضاهيه حضور أية دولة أخرى في المنطقة لضمان استقرارها.

من هذا المنظور ستحسم واشنطن موقفها في الحوار مع العراق في ضوء التعرف على مدى قدراته ورغبته في الابتعاد عن إيران. العراق من وجهة نظر براغماتية، وفي ظل الأزمات التي يمر بها، لن يجد أمامه سوى خيار تعزيز علاقاته مع الولايات المتحدة، والعمل على إعادة ترميم علاقاته مع دول الجوار العربي، وهو المسار الأوضح في سلوك قياداته منذ مجيء رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لسدة الحكم.

* كاتب عراقي

 
Email