نداءُ البيت العتيق.. قراءة في ومضة محمد بن راشد الرمضانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

انسجاماً مع التقاليد الروحانية المتميزة لشهر رمضان المبارك، وحرصاً على التواصل المستمر مع أبناء الوطن، ينشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، بين الحين والآخر ومضةً رمضانية مُكثّفة من رقائق شعره الجميل الذي تتخفّف فيه الروح من أعباء الحياة وإيقاع العمل، ويسافر معها القلب في ملكوت الله العزيز الحميد، ولقد سبق لنا أن توقّفنا قبل فترة وجيزة مع ومضة رمضانية جميلة نشرناها بعنوان «مصابيح مكة» توقفنا فيها مع مقطع شعري بديع عبّر فيه سموه عن تَوْقِه الروحي لزيارة بيت الله العتيق وكيف أنّ مصابيح مكة كانت تهدي قلبه المشتاق، وها هو يواصل التواصل مع متابعيه على إنستغرام ضمن وسم «ومضات رمضانية»، حيث نشر مقطعاً من أروع المقاطع التي تجسّد لحظة الخشوع الجليل في حضرة المولى الكبير وحول صحن بيته العتيق، وطوافاً وسعياً بين الصفا والمروة وغيرهما من الشعائر العِظام وما ينبثق عنهما من النور من خلال استحضار لحظات الوحي وهيبة المصطفى ــ صلى الله عليه وسلم ــ وصحابته الكرام ــ رضي الله عنهم ــ أجمعين.

طفت وسعيت وبكى في الليل ولهاني

قلبه إذا يقال الله أكبر إيليني

والسعي بين الصفا والمروة، هو إحياء لتلك اللحظات الخالدة في وجدان الأمة من خلال قصة أمّنا هاجر مع ولدها إسماعيل، عليهما السلام، حين اشتدّ به العطش ولم تجد ما يروي ظمأه، فكانت تسعى بين هذين المَعْلمين بعاطفة الأم الرؤوم، فلم ينسَ الله تعالى لها هذا الموقف، وجعله شعيرة من شعائر الحج يستلهم منه الحجيج أعمق الدروس، ويسكبون في سعيهم العبرات من هيبة تلك المشاعر، ويبكون بكاء الولهان، فتلين منهم القلوب، وتخشع منهم الأرواح وتستنير القلوب، وهذا شيءٌ يحسّ به كل حاضر القلب في ذلك المقام ولكن لا يستطيع التعبير عن روعته وجمالياته إلا شاعر مرهف الحس عميق التذوق لكل موقف من مواقف الحج الكبير.

فيض من النور حيّاني وأحياني

يا خالق النور إنته بس تهديني

في تلك اللحظات النادرة ينغمر القلب بفيض النور، ويشعر الإنسان بجلال الموقف، ويتسلل النور إلى أعماقه فيضيئها، ويلقي عليه السلام من السلام سبحانه، فتحيا الروح بهذا السلام، وتنتعش الجوارح بهذه السكينة، وما أروع هذا الجناس اللطيف بين اللفظتين: حيّاني وأحياني، حيث تُسهمان بحروفهما المتجانسة الرقيقة في تغذية الحس الموسيقي للقصيدة من خلال إيقاع جميل خلّاب يستمتع معه الشاعر والقارئ بلحظة النور التي يتفرد المولى سبحانه بخلقها، وتكون سبباً لهداية القلوب الظامئة لمصدر النور مرتّلةً قوله تعالى الذي افتتح به سورة الأنعام الجليلة فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ * ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

ووقفت والليل يشهد طول حرماني

أنظر لحالي إلهي لا تِخلّيني

ولمكة المكرمة ليلها الساجي الخاص بها الذي يبعث في القلب الرهبة والجلال، وهو ما يشعر به صاحب القلب الرقيق الحيّ، وإنّ في ذلك لسِرًّا عجيباً، فهي مهبط الوحي، وهي بلد الله الحرام، وعلى ثراها مشى أكرم الأنبياء: إبراهيم الخليل وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، ثم خيرة الخيرة من سُلالة إبراهيم وإسماعيل سيّدنا محمد بن عبد الله ــ صلى الله عليه وسلّم ــ، أكرم خلق الله على الله تعالى، فلا غرو أن يكون ليل مكة مميزاً يشهد فيه الإنسان حين يقف في بيت الله كل هذه المعاني السامية، ويشعر بالحرمان إذا فاته مثل هذا العطاء الجزيل، فلا يجد سوى التضرع من قلب كسير راجياً من مولاه الكبير أن يلحظه بعين الرحمة والمغفرة والقبول، وأن ينظر لحاله فيرحمه ويغسل أوجاع روحه ولا يتركه وحيداً في دياجي الليل، حيث لا يسمعُ همسه وشكواه سوى خالقه ومولاه.

في مهبط الوحي والتنزيل فاجاني

شعور ما يِنْوِصِفْ ما زال يشجيني

وتختصر جملة «مهبط الوحي» كل معاني السموّ التي تتميز بها مكة على غيرها من الأماكن، فهي مهبط الوحي وكفاها بذلك فخراً، حيث هبط الروح الأمين جبريل ــ عليه السلام ــ على قلب المصطفى محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ وفاجأه وهو يتحنّث في غار حراء، وجاءه بأكمل رسالة ادّخرها الله تعالى لهذه الأمة، وجعلها بها خير أمة أُخرجت للناس، ونزل على قلبه بالأمر الإلهي (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) لتدخل مكة بعد هذا الحدث الجَلَل في أعظم مدارات التكريم حين جعلها الله تعالى موطناً لخاتم أنبيائه، ففي هذا البلد الطيب الأمين وحول كعبة الله المشرفة تنزّل شعور مفاجئ على قلب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، يعجز اللسان عن وصفه، والقلم عن تسطيره، ولم تنتهِ روعة الإحساس به بل ما زال يُشجي قلب صاحب السمو، ويُلهمه أجمل الصور والمعاني، ويثير في قلبه ووجدانه أعمق مشاعر الحنين لزيارة بيت الله العتيق، تجسيداً لعمق هذا الإحساس وصدقه ورسوخه في حنايا القلب وخبايا الروح والوجدان.

كأنه أمامي محمد خير عدناني

وحوله الصحابة جنوده والمطيعيني

وفي هذا البيت يُفصح صاحب السمو عن سرّ هذا الشعور المفاجئ ومصدر هذه الرهبة، وإذا بطَيْفِ خير الخلق محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ يتراءى لناظرَيْهِ ويراه أمامه، فيقشعرّ البدن من هيبة خير ولد عدنان وفخر العرب وعنوان مجدهم، فبه صلوات ربي وسلامه عليه، صارت العرب سادةً للأمم، شاء مَنْ شاء وأبى مَنْ أبى، وهو القائل صلى الله عليه: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»، وتكتمل الصورة برؤية الصحابة الكرام الشجعان المغاوير وقد أحاطوا برسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ، وظهرت عليهم ملامح الطاعة الكاملة، طاعة الجندي لقائده الذي يثق به، ويفتديه بنفسه، ولقد كان صحابة رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ نمطاً فريداً من الرجال في حبّ رسول الله وطاعته على أكمل الوجوه، حتى قال عروة بن مسعود الثقفي وهو من أكمل رجال العرب سُؤدداً ومجداً: «لقد جئتُ كسرى في ملكه، وجئتُ قيصر في ملكه، فما رأيت أحداً أشدّ تعظيماً من أصحاب محمّد لمحمّد»، وهو لعَمْرُ الحق تعظيم الإيمان وبشاشة القلب الصادق في الحب وليس تعظيم الملك والجبروت، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه أكثر الناس تواضعاً، ولقد كانت الجارية الصغيرة تأخذ بيده فيمشي معها في طرقات المدينة، مع ذلك كان هو ليث الخطوب والمعارك حتى قال الليث الغالب علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ: «كُنّا إذا اشتدّ الوطيس نتقّي برسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ، فما يكون أحدٌ أقربَ للعدوّ منه صلى الله عليه وسلم»، فقد كان نبياً كريماً، وبانياً صبوراً للدولة، وقائداً عسكرياً يقود الجحافل، وبه ختم الله تعالى الرسالات ليكون هو النموذج الأكمل بين جميع الأنبياء، ولتظل شخصيته النبوية وأخلاقه العالية مصدر إلهامٍ لكل من يُحبه ويقتفي آثاره، ويشتاق إلى طلعة وجهه السمح الكريم صلى الله عليه وسلم.

Email