هل نحن أغبياء عاطفياً؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تأتي إليه، مَن يُفترض أن يكون الصديق الصدوق، لتذرف بين يديه أحزانك وأشجانك وما يقلقك وينغّص عيشك، وتتوقع أن يبادرك بكلمة طيبة تخفف مواجعك، وتبرّد قلبك، فتلقاه يباغتك بلا أدنى تقدير لنزيفك: الناس كلها تعاني، ثم يردف: «لا تشكيلي لأبكيلك». وإن أنت حاولت أن تحثه على تفهمك، أبدى لك امتعاضه من أنك إنسان هشّ لا تقوى على مجابهة الصعاب، وأنك لو كنت مكانه لما تحمّلت يوماً واحداً مما يكابده، وأن همومك التي تسهّدك وتحرم جفنيك الرقاد، ما هي إلا قطرة في محيط مشكلاته.

 

حينئذ، تسوَدّ الدنيا في عينيك فوق سوادها، فتروح تلوم نفسك الأمّارة بالبوح، وتؤنبها لأنها فضفضت وأرخت جدائل شكواها على صديق لا يصغي، ولم يعلم بأن الكلمة الطيبة صدقة، فتأخذك نفسك، المتأملة خيراً في الأصدقاء، إلى نزار قباني: «قلْ لي، ولو كذباً، كلاماً ناعماً». إن هذا أكثر ما ترجوه في هذه القنطرة من شحّ الأماني، لكن «الرفاق حائرون».

وما ضرّ لو أن الرجال الجُوف أصغوا، فقط أصغوا، إلى الصديق الملتاع، ولم يبادروه بدزينة من الشكاوى كلما قال واحدة. وحدث، أن أحدهم جاء إلى أصدقائه، ملهوفاً، بعد أن أجرى فحوصاً في المستشفى كشفت أن أنزيمات قلبه مرتفعة، وكذلك ضغطه والكوليسترول أيضاً، فيما الكوليسترول الحميد منخفض، ولديه حصوة في الكلى، وما كاد يُنهي حديثه الذي توقع من أصدقائه أن يجهشوا بسببه في الحزن، إلا أن بادره أحدهم: أنا لدي كل ما تقدمت به، فضلاً عن أنني أعاني من مرض السكري، فاحمد ربك أن السكري لديك ليس مرتفعاً!

وما كان من صديقيه اللذين كانا جالسيْن على جناحيْ الطاولة إلا أن أومأ كل منهما برأسه، ولسانه حالهما يقول «نعم، طبعاً. لماذا كل هذا الدلع وهذا الهلع؟».

حار الرجل المريض ماذا يفعل إزاء ردود أفعال تنمّ عن أن أصحابها، الطيبين بلا ريب، فاقدون فضيلة التعاطف مع الآخرين، وأنهم يعانون من ضحالة الذكاء العاطفي والاجتماعي. وهذه ميزة يفتقر إليها غالبية الرجال، لأن النساء متقدمات عاطفياً من هذه الناحية، وأكثر موهبة في التعاطي مع حالات كهذه.

المرأة، عموماً، تصغي للمشكلة بكل جوارحها، بعينيها، بحركة وجهها، بلغة جسدها، لتبدي للطرف الآخر بأنها تشعر بألمه، سواء كان المتحدث رجلاً أو امرأة. المرأة تحب «الفضفضة»، وبعضهم يسميها «النميمة» أو «الثرثرة»، لكن هذا ليس مأخذاً مطلقاً ما دام أن ذلك، في حالات الحاجة إلى الحنان، يمنح الطرف المستغيث بعضاً من العزاء وقليلاً من السلوى.

الإصغاء العميق، أو قل: الإصغاء بولاء، ميزة أساسية في صناعة وتأهيل الذكاء العاطفي. الرجل، عموماً، لا يُصغي، إنه يلوذ بكهفه الخاص كلما استعصى عليه أمر، كما يشير إلى ذلك جون غراي في كتابه الشهير «الرجال من المريخ، النساء من الزهرة». ولعل هذا الأمر يجعلهم غير قادرين إلا على حل مشكلاتهم الخاصة. إنهم يبذلون طاقة كبرى في ذلك، حتى لا يبقى لديهم متسع لحل مشكلات الآخرين. ومع تراكم المشكلات التي تعصف بهم من كل حدب وصوب، تتضاءل فسحة التعاطف مع الآخر، فيروج الشعار «اللي فيني بيكفيني». فالسعة انكمشت حتى صارت «أضيق من مرور الرمح في خصر نحيل».

بيْد أن هذا التفسير، لا يبرر، قلة أو انعدام الذكاء العاطفي، الذي لا يولد مع الإنسان، وإنما تتم تربيته وتنميته، والحدب عليه، وإغناؤه باستمرار، كي يصبح جزءاً من شخصية الإنسان الماهر الذي يكون بلسماً لا يقول الكلام الطيب وحسب، بل يدفع باتجاه إيجاد الحلول بإخلاص، والاستجابة العاطفية التي يشعّ من بين أعطافها الكرم والسخاء.

لا يدرك الرجال الجُوف أن الكلام الحَسن يُشفي ويهزم أصعب المشكلات، ويخترق أعتى الحصون، وأن عبارات التعاطف الصادقة تطفئ أشد الحرائق. ولقد أعفاني المتنبي من مغبّة الشرح الطويل في مديح الكلام الطيب، حينما قال «لا خيلَ عندك تُهديها ولا مالُ، فلْيُسْعدِ النطقُ إن لم يُسْعد الحالُ».

*أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي

Email