ومضةُ القائد.. قراءةٌ وانطباع

ت + ت - الحجم الطبيعي

ضمن سعيه الدؤوب المتواصل، ورؤيته الثاقبة لتنمية مفهوم القيادة والإرادة لدى أبناء شعبه، نشر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، رعاه الله، مقطعاً قصيراً بصوته الواثق يؤكد فيه على أنّه لا يسمح بظهور مشروع إلا بعد تشكّل القناعة التامة به إلى حدّ الإيمان، ثمّ عقّب على ذلك بقوله: «وإذا اقتنعت لا أتوقف» لتكون هذه الومضة الخاطفة منهجاً واضح المعالم في المسيرة التنموية للوطن، فالإنجاز الصحيح يجب أن يتأسس على المعطيات الصحيحة التي تتشكل بفعلها القناعة العقلية، فإذا تشكّلت القناعة الحاسمة على المستوى العقلي، يأتي دور الإرادة الجازمة التي لا تعرف الوقوف أو التردد، فضلاً عن النكوص والتراجع، وهذا هو السرّ العميق في رؤية صاحب السموّ في إدارة الدولة، فهو يمنح الأشياء حقّها من الدراسة والرويّة وتفحّص جميع الاحتمالات، وحين يستقرّ الرأي على المضيّ قُدماً في التنفيذ يكون للإرادة الدور الحاسم في مواصلة السير، فكم من مشروع خطير القيمة والأثر ضاعت فرصته وذهب أدراج الرياح بسبب ضعف العزيمة، ورخاوة الإرادة، ومن هنا يلحّ صاحب السموّ دائماً على فلسفة الإرادة وقوة العزيمة في التنفيذ، باعتبارها صمّام الأمان في المسيرة العامة للبلاد.

إنّ هذه الومضة المُكثّفة ونظائرها من الومضات هي في الحقيقة خُلاصاتٌ مركّزة لأفكار حول مفهوم القيادة طرحها صاحب السموّ في مواطن متعددة من كتاباته النثرية التي يحرص من خلالها على تعزيز مفهوم التفكير الإيجابي لدى الإنسان، فهو صاحب المقولة الرصينة الشهيرة: «أكبر نجاح لأيّ قائد ليس صناعة الإنجازات، بل صناعة الإنسان»، وفي هذا السياق العميق التأثير في الروح العامة للشعب، كتب صاحب السموّ فصلاً رائعا بعنوان: «القدوة الإيجابية» في كتابه «تأملات في السعادة والإيجابية» قال فيه: «هناك تشابهٌ لغوي بين كلمتي القائد والقدوة، وفي رأيي المتواضع الكلمتان بينهما تشابهٌ وظيفيّ أيضاً»، ثم شرح صاحب السموّ وجهة نظره الرصينة بقوله: «علاقة الكلمتين هي علاقة مقدمة ونتيجة، لا يوجد قائد حقيقي من دون أن يمثّلَ قدوةً حقيقية لمَنْ حوله، قدوة في أفعاله وأقواله وأفكاره»، ليتوقف صاحب السموّ بعد ذلك مع فكرة القائد الإيجابي، مؤكداً أنّه لا يمكن أن يتأثر الناس بقائد سلبي، فالتأثير الحقيقي في حياة الناس في منظور صاحب السموّ يكون عبر القادة الإيجابيين، لأنّ الإيجابية هي الشعلة التي تُعطي الحياة لأفكارك، وتجعل من حولك يستمعون إليك، ويستمتعون بالعمل معك، ويؤمنون برؤيتك، ويعملون وفق طريقتك، ويثقون بقراراتك.

ولكيلا تبقى هذه الأفكار في حيّز التنظير يلقي صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد ضوءاً كاشفاً على النماذج الرائعة للقادة السابقين ممن قام على كاهلهم بناء هذا الوطن، فيثمِّنُ دورهم الاستثنائي في ترسيخ قيمة الثبات على مواجهة التحديات حيث يقول: «كنّا ننظر لقادتنا في تلك الأوقات الصعبة فنراهم ثابتين، مستمرّين في عملهم، مقتنعين بفكرتهم غير مترددين في قراراتهم، فانعكس ذلك على جميع مَنْ حولهم» لتكون الرسالة التي يريد صاحب السموّ تقريرها وتأكيدها في النفوس هي أنّ الثبات هو سرّ التقدم، وأنّ التردد هو أخطر من عدم اتخاذ القرار، ليختم هذا الفصل الرائع بكلمة عميقة الإيحاء قال فيها: «أن تكون قدوةً إيجابية هو أن تؤمن بفكرتك، وأن تكون أنت أوّلَ مَنْ ينفّذها قبل أن تطلب من الآخرين تطبيقها»، بمعنى أنّ التعليم بالقدوة هو أرسخ وأعرق مناهج التعليم وبناء الذات الإنسانية.

لكنّ أعمق نظرات صاحب السموّ في مفهوم القيادة، وأجمل مناقشاته لها تجلّت في فصلٍ بديع بعنوان (القيادة) هو الفصل الثالث من كتابه الثمين «رؤيتي: التحديات في سباق التميّز»، فهناك يجد القارئ نظرات عميقة وتساؤلات أكثر عمقاً حول مفهوم القيادة، وكيف يمكن صناعة القائد، ومستويات القيادة، ليؤكد صاحب السموّ وانطلاقاً من خبرته الذاتية العميقة والممتدة في الزمان، أنّ ممارسة القيادة شيءٌ، وتعريف القيادة وتفسيرها شيءٌ آخر، وليس المقام متسعاً للوقوف التفصيلي مع أفكار ذلك الفصل الخصب بالرؤى والتساؤلات والتوجيهات التي تعكس عمق نظرة صاحب السموّ، وخبراته المتنامية التي اكتسبها من مدارس متعددة يأتي في طليعتها مدرسة الحياة المفتوحة على الآفاق الكبرى، ثم ما تعلّمه من الشيوخ الكبار الذين كانوا نماذجَ مُلهمة، ولذلك يحرص صاحب السموّ على تثمين القدوات القيادية؛ لأنها هي التجسيد العملي للفكر، وبغير ذلك يبقى الحديث عن مفهوم القيادة وفنونها وتجلياتها مفهوماً مثالياً نظرياً لا يمكن أن تحصل الثقة به إلا من خلال نماذج القيادة التي أنجزت وتركت الإنجاز شاهداً على طبيعتها القيادية وشخصيتها الطلائعية التي تستحق أن تكون نموذجاً مُلهِماً للأجيال والقيادات التي تبحث عن النموذج الذي يجمع بين النظرية والتطبيق.

 

 

Email