صناعة الأمل ومسباره

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أننا أمام تغيّر كبير في أفكارنا ومعاييرنا ومقاييسنا الخاصة بالصعب والسهل، والمستحيل والممكن، والاستسلام والمعافرة، واليأس والأمل. يفاجأ الطلاب بأن الامتحان صعب، فيقولون إنه «جاي من المريخ»، يتحدث مسؤول عن إنجازات غير موجودة على الأرض، فيصفه مواطنون بأنه «جاي من المريخ»، يسأل أحدهم عن بديهيات الاستخدامات الرقمية، فينعتونه بأنه «جاي من المريخ»، اليوم، فقدت العبارة روحها التهكمية وسماتها الاستنكارية، بعد أن قادت الإمارات المنطقة العربية فعلياً إلى المريخ، هذا المنجم العلمي الثري. وصول «مسبار الأمل» قبل أيام ودخوله في المدار حول الكوكب الأشهر حفر اسم العرب في سجل استكشاف الفضاء وتحديداً «الكوكب الأحمر».

تحقق الإنجاز التاريخي بفضل دولة الإمارات العربية المتحدة وأبنائها «الذين حولوا الحلم إلى واقع»، كما قال صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، هو إنجاز كسر بالحجة والمسبار، وبالعلم والابتكار، احتكار دول بعينها لسباق الفضاء على مدار عقود طويلة.

عقود طويلة مضت والعرب يظنون أنهم سيظلون خارج سباق العلم والابتكار والاستكشاف، لكن صناعة الأمل حين تكون مصحوبة بعلم وتعليم وثقافة وبيئة صديقة للبحث والابتكار، يسفر عنها «مسبار أمل» لسان حاله يقول «إننا أبناء حضارة» كما غرّد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، «المسيرة التي انطلقت من الصحراء لتعانق الفضاء» تبرهن على إيمان كامل من قبل القيادة الرشيدة للإمارات بالإنسان وقدراته على الاستمرار في كتابة تاريخ مضيء للعرب، واستعادة الريادة بالعلم والإنجاز والانضمام لسباق الفضاء.

سباق الفضاء ليس مجرد سباق للتباهي، هو سباق أممي من أجل إتاحة فرص قد تبدو اليوم وكأنها الاحتمال الرابع، بعد الغول والعنقاء والخل الوفي، لكنها في واقع الأمر قد تتحول من احتمال إلى فرص حقيقية. واليوم ومع نجاح «مسبار الأمل» نتفكر في كلمات رئيس وكالة الفضاء الفرنسية، جان إيف لو غال، الذي أكد غير مرة أن «للمريخ الأولوية في عمليات الاستكشاف الفضائية لأننا نعلم أنه كان صالحاً للسكن قبل مليارات السنوات».

تاريخ البشرية مع محاولات استكشاف المريخ طويل، وليس نتاج الأمس أو أول من أمس. المحاولات عمرها نصف قرن، لكن العديد منها مُني بالفشل، مرة يفشل المسبار في الخروج من المدار الجوي للأرض، ومرة تصاب الألواح الشمسية المثبتة على جانبي المسبار بعطل يحول دون تحليقه حول المريخ. لكن المسألة لم تكن كلها فشل، بل حققت محاولات أخرى نجاحات في التحليق بالقرب منه أو جمع معلومات من على سطحه، وثالثة عبر إرسال آلاف الصور والتحليلات الكيميائية للصخور والتربة والطقس.

المؤكد أن كل المحاولات – الفاشل منها والناجح - إضافات ومكاسب للبشرية، ولعل الاكتشاف الأكبر بوجود جليد ماء مدفون على سطح الكوكب الأحمر، هو ما يجعل هذا السباق بالغ الحيوية. فماذا إذا كانت حياة البشر على سطح المريخ ممكنة؟ وإن ثبت هذا الاحتمال، فهذا يعني أن القنبلة السكانية على الأرض والمصحوبة باستنفاد جنوني للموارد الطبيعية قد تجد حلاً معيشياً سلمياً يوماً ما، وإذا أضفنا إلى ذلك ما يعتري كوكب الأرض من جائحة قلبت أحواله رأساً على عقب، وما زالت نتائجها وآثارها غير معلومة أو حتى متوقعة، فإن التعامل مع سباق الفضاء، باعتباره سباقاً للأمل في استمرار الحياة، أصبح أولوية حياتية، وليس رفاهية علمية أو ولعاً بالمجهول.

الولع بالمجهول سمة بشرية، ولطالما اتسمت تصرفات البشر وأفكارهم وأنشطتهم مدفوعة بميل فطري لمعرفة المجهول. فمن معرفة المجهول يبدأ الوصول للمعلوم والعلوم، وما هو معلوم لدينا اليوم كان بالأمس مجهولاً، لولا ولعاً بالاستكشاف وميلاً للاكتشاف اقتفى أثره البعض.

عمل وكالات الفضاء ينطلق من الاعتراف والإيمان بهذا النوع من الولع، منهجها يقوم على تحدي حدود ما يعرفه البشر الآن، وتحويله إلى مزيد من المعرفة غداً، هذا التحدي يحمل في طياته احتمال تحقيق فائدة ما للبشرية، إن لم يكن العقد المقبل فالقرن المقبل.

مكانة «وكالة الإمارات للفضاء» باتت عالمية، ودور الإمارات في استكشاف الفضاء ألحق العرب جميعاً بسباق الفضاء. وما محتوى تهنئة وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» لـ«وكالة الإمارات للفضاء» بنجاح مهمة «مسبار الأمل» إلا رسالة يكمن معناها في بطن «مسبار الأمل» وما يمثله، حوت التهنئة بيتاً للمتنبي يقول فيه: «إذا غامرت في شرف مروم.... فلا تقنع بما دون النجوم».

أغلب الظن أن الإمارات لن تقنع بما دون النجوم، فالأمل ومسباره وصناعته وعقيدته لا تقنع بما هو أقل من ذلك. من الآن فصاعداً، فقدت عبارة «جاي من المريخ» معناها التهكمي، وصارت صفة وشرح حال.

* كاتبة صحافية مصرية

Email