«كورونا» بين السياسي والعلمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرّ أكثر من عام على بداية انتشار وباء فيروس «كورونا» المستجد «كوفيد 19»، وبدا للوهلة الأولى أن هذه الآفة قد يستعصي إنهاؤها في ضوء غياب العلاج المناسب أو اللقاح الضروري.

وكان لهذا الانطباع المتشائم ما يبرّره، إذ كان فيروس «كوفيد 19» في بدايته مجهول الخصائص والتداعيات، ومن ناحية أخرى، فإن إمكانية التوصّل إلى لقاح مضاد له كانت بحسب المدارس التقليدية تحتاج سنوات من البحث والتصنيع، ولم يتبق لصاحب القرار السياسي بمختلف الدول والحال تلك سوى اللجوء إلى الخيار الوحيد الذي قد يحدّ من انتشار الوباء، وهو الحجر الصحي الشامل.

ومعلوم أن نتائج هذا الخيار كانت وخيمة على اقتصادات الدول وازدادت إلى ذلك نسب الفقر والاحتياج لدى شرائح واسعة من المجتمعات، ولعل أخطر التداعيات هي تلك المتعلقة بالجوانب النفسية لدى الشباب بخاصة، وفي المحصلة كانت الكلفة باهظة جداً على الإنسانية جمعاء وستتحمل تبعاتها السلبية قطعاً الأجيال القادمة.

ولم يكن تعاطي الدول مع هذه الأزمة الصحية على الدرجة نفسها من الحزم في مواجهتها، فقد كان الحزم والفعل على قدر إرادة المستوى السياسي وإمكانيات الدول، فدول نجحت لأن مسؤوليها امتلكوا إرادة الفعل، ووظفوا إمكانيات المجتمع والدولة في الحرب ضد الوباء، وأخرى خابت لغياب الإرادة عند مسؤوليها ولانعدام مواردها أو لسوء تصرف فيها.

وبدا من الواضح أن المسؤولين عموماً رضخوا لسلطة المجالس العلمية والطبية تحديداً والتي كانت خطاباتها في الغالب تحذيرية ومتشائمة، وهو ما خلق مناخات من الخوف أثرت في القرار السياسي، فكان في عمومه انعكاساً للرأي «العلمي» الذي يُمكن اختزاله في أن العالم مُطالب بالتوقف عن الحركة حتى يتسنى القضاء على جائحة «كورونا».

ولم تقتصر تداعيات الخطاب العلمي على قرار السياسيين فقط، بل إن مختلف جوانب الحياة تداعت أمام سطوة هذا الخطاب، وقد ساهم في ذلك انجرار الفضاءات الاتصالية والإعلامية إلى حرب الإثارة والتخويف والفزع، وهو ما ساهم في تمكين هذه السلطات العلمية من الاستحواذ على القرار السياسي والاتصالي في عدد من الدول الغربية وفي غيرها من الدول، كما مثّل ملجأ وحماية لحكومات دول أخرى عند اتخاذها لقرارات موجعة في حق مواطنيها ومؤسساتها الاقتصادية.

ويبدو أن التوصّل إلى لقاحات ضد الفيروس من جهة، والتطور الكبير في معالجة أعراض هذا المرض الوبائي من جهة ثانية، والتقدم البحثي المهم لإيجاد العلاج المناسب، كلها عوامل ساهمت في تقليص نفوذ الخطاب التخويفي، بما فتح باباً للأمل في حياة أفضل وخالية من كابوس «كورونا».

وإن هذه التطورات الإيجابية مكّنت فيما يبدو صاحب القرار السياسي من التحرر التدريجي من سطوة الرأي العلمي الجاف، والذي لا يأخذ في الاعتبار جوانب الحياة الأخرى، ويختزل هذه الحياة والحقوق المترتبة عليها في، الحق في الصحة، وقد غاب عن هذا الخطاب أن الحق في الحياة المتوازنة أشمل.

إن الجدل الدائر رحاه في عدد من الدول الغربية، حول وجاهة الإجراءات المقيدة للحريات الفردية والجماعية، وللنشاط الاقتصادي والاجتماعي والجمعياتي والثقافي والرياضي، بعلّة قطع الطريق أمام انتشار الفيروس بأشكاله المتعددة.

أرجع الموضوع إلى إطاره الحقيقي، وأوضح بما لا يدع مجالاً لأي شك، أن الأصل في قرارات الحجر الصحي، هو غياب الإمكانيات المادية والنقص الفادح في البنى الأساسية الصحية، والرضوخ المبالغ فيه لخطابات التخويف والفزع.

وقد كان يكفي مجرد الإعلان عن بدء عمليات التلقيح ضد الوباء للتحرر من عوامل الخوف التي كبّلت القرار السياسي، وجعلته رهين الآراء العلمية والطبية على وجاهة العمل الجبار الذي يقوم به قطاع الصحة والبحث العلمي لمواجهة هذه الآفة، وغيرها من الآفات.

إن هذا الجدل أعاد إلى الأذهان فكرة أن الأصل في الحياة هو الحرية، وأن خطابات التخويف المبالغ فيها، كما خطابات التفاؤل المفرط، مآلاتها سلبية وبائسة، وهي تؤدي عموماً إلى نتائج عكسية، ولكن من المهم التأكيد على أن جائحة «كورونا» ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وأن العالم قد يشهد موجات أوبئة جديدة، ولكن الحياة مع ذلك لا ينبغي لها أن تتوقف.

إن قدر الإنسان هو الحياة، وإن ملكة العقل تيسّر له سُبل التوصل إلى ما يضمن له استمرار هذه الحياة بمختلف مناحيها، اليوم لقاح وغداً دواء ليستمر بذلك النشاط الإنساني تحت يافطة واحدة وهي الذكاء والابتعاد ما أمكن عن الحماقة التي تمكنت ببعضنا.

Email