الأخوّة الإنسانية عقيدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

«الأخوة الإنسانية»! هل هناك كلمتان أنسب منهما في هذه الآونة؟ هذه الأوقات التي يتلاعب فيها فيروس بمليارات البشر، دون النظر إلى هوية هذا أو ديانة ذاك أو انتماء هؤلاء الأيديولوجي أو الفكري. ننظر إلى الكلمتين بعين متدبرة وقلب متقبل وعقل نابذ للعصبيات.

ربما كان الغرض الأصلي من قرار الأمم المتحدة بأن يكون الرابع من فبراير يوماً للأخوة الإنسانية هو مواجهة ونبذ الكراهية الدينية والتمييز والوصم. لكن المفارقة التي تخدم الجميع هي أن يأتي الاحتفاء الأول بهذا اليوم في ظل «كوفيد 19» الذي سلط دون أن يدري الضوء والاهتمام والعقل والمنطق على مبدأ «الأخوة الإنسانية». ودون مبالغة، فإن هذا المبدأ تعرض لقدر غير مسبوق من الظلم والتجاهل.

عقود طويلة والكوكب حافل بجنسيات تتعالى على أخرى، وأجناس تتصور أنها أرقى من غيرها، ومنتمين لعقائد ومذاهب يظنون أنهم وحدهم الأقرب إلى الله، ونوع اجتماعي يسمو بنفسه على آخر، وثقافات تستعبد أخرى، وأيديولوجيات تتنمر على غيرها، وأفراد يضعون أنفسهم في طبقات أعلى لأسباب تتعلق باللون أو الشكل أو الانتماء، ونماذج انعدام الأخوة الإنسانية تحتاج موسوعات وتتبع منهج الحلقات المفرغة. فالكراهية تؤدي إلى أخرى والتمييز يتكاثر ذاتياً والوصم نداهة.

لذلك يأتي يوم «الأخوة الإنسانية» المحتفى به للمرة الأولى هذا العام كمحاولة جادة لكسر حلقات الكراهية والأنانية المفرغة. يقولون رب صدفة خير من ألف ميعاد، ونزيد ونقول رب مناسبة أممية للتذكرة بمبادئ الإنسانية المنسية خير من ألف مؤتمر وفعالية عن أهمية «الأخوة الإنسانية» في ظرف أممي كظرف الوباء الحالي.

وليس مستغرباً أن ينبع هذا اليوم من قرار رعته كل من مصر والإمارات لتكللا سلسلة من الجهود والمبادرات وأبرزها «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك». هذه الوثيقة التاريخية، التي وقع عليها كل من فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب وقداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، تحتفل بمرور عامين على توقيعها في الإمارات قبل عامين.

هذا الاحتفال ومعه الاحتفاء للمرة الأولى بـ «يوم الأخوة الإنسانية»، تأتي فعاليات «المنتدى الدولي للأخوة الإنسانية» المقام في الإمارات افتراضياً وتنظمه وزارة التسامح والتعايش بالتعاون مع اللجنة العليا للأخوة الإنسانية، لتكون أشبه بالتظاهرة الإنسانية المطالبة بالتسامح والتعايش والأخوة، ونبذ ما ضرب العالم، من أفكار وتوجهات تغذي الكراهية والصراعات وشتى أنواع الانحدار الثقافي والأخلاقي.

وللأسف تحظى منطقتنا العربية بنصيب غير قليل منها. يوم «الأخوة الإنسانية» ليس مجرد يوم كغيره من الأيام التي نحتفي فيها بفكرة أو منهج أو دعوة، لكنه يوم يدفعنا إلى استعادة إنسانيتنا. هذه الإنسانية التي أهدرناها في اقتتالات عرقية وصراعات دينية وخلافات مذهبية وحروب قومية واحتكاكات أيديولوجية تحتاج تضميداً وتصويباً وإعادة توجيه.

إعادة توجيه مسار الكوكب نحو مزيد من الإنسانية اختيار بدا واضحاً في فعاليات المنتدى. فحين يغرد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأن «العالم يحتفي بقيمة إنسانية نحتاج إليها أكثر من أي وقت مضى.. وأن المناسبة تذكرنا بأهمية الحوار لفهم وتقبل الآخر.. وتعزيز التعاون لنبذ التعصب والتصدي لخطاب الكراهية ونشر قيم التسامح والعدل والمساواة».

وأن «مصر كلم الله موسى على أرضها، وارتحل إليها السيد المسيح وأمه العذراء السيدة مريم، ودخلها الإسلام منذ فجر بزوغه»، مشيداً بالنسيج الوطني الواحد وتمتع الجميع بحقوق متساوية دون تمييز، فإن هذا يعني أن «الأخوة الإنسانية» عقيدة.

وحين يتحدث سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، نائب حاكم دبي وزير المالية، عن دور الإمارات في نشر قيم التسامح والإنسانية والعيش والمشترك، وعن حرصها على ترسيخ هذه القيم الإنسانية العظيمة من خلال مبادرات وبرامج التعايش والسلام، ولكل من يعيشون على أرضيها باختلاف جنسياتهم وأعراقهم ودياناتهم، فإن هذا يعني أن «الأخوة الإنسانية» عقيدة.

عقيدة «الأخوة الإنسانية» تذكرنا بأن لا خلاص إلا بإنسانيتنا، ولا هلاك إلا بتخلينا عنها. وإذا كانت العقود الماضية تلونت بألوان الفتنة والعصبية والتطرف والتعالي والتمييز والوصم، وهو ما أدى إلى اشتعال حروب واقتتالات وكراهيات تحتاج عقوداً للتعافي وإيقاف توريثها، فإن الأشهر القليلة الماضية من عمر الوباء، كفيلة بتسريع التعافي.

«كوفيد 19» لم يتحقق من هوية أحدهم أو معتقده أو فكره قبل أن يصيبه. ومبتكرو اللقاحات والعلاجات لم يضعوا شروطاً تتعلق باللون أو الجنس أو الدين لمن يتلقونه. الوباء الأممي يتطلب إنسانية أممية.

وهذا ما دعا إليه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بقوله إن تنامي الأعمال التي تدعو إلى الكراهية الدينية، وتؤدي بالتالي إلى تقويض التسامح واحترام التنوّع، في وقت يواجه فيه العالم أزمة غير مسبوقة بسبب «كوفيد 19»، يدفعنا دفعاً إلى اتخاذ تدابير عالمية تقوم على الوحدة والتضامن والتعاون باسم الإنسانية.

 

 

Email