المجتمعات المتعافية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكن القول إن كلمة «تعافي»، هي الأكثر بحثاً في هذه الآونة. والبحث هنا ليس مقتصراً على شبكة الإنترنت، حيث تكتب «تعافي»، بحثاً عن معانٍ وموضوعات متعلقة وأخبار ونكات، لكنها تمتد إلى عقول وقلوب المليارات من سكان الأرض. وتخبرنا المعاجم اللغوية، أن كلمة «تعافي»، تعني «استرجاع القوة أو استعادتها مع الشفاء». إنها كلمات يعرفها الجميع، كل بلغته. وهي الكلمات التي طالما كتبناها في دروس القراءة، وبطاقات المجاملة وتدويناتها. لكن في هذه الآونة، تدغدغ هذه الكلمات، وعلى رأسها «تعافي»، مشاعر الجميع.

وإذا كان الجميع طاله من الفيروس جانب، إن لم يكن بالإصابة المباشرة، فبإصابة قريب أو حبيب، وإن لم يكن هذا أو ذاك، فبتأثير اقتصادي أو اجتماعي أو نفسي، أو خلطة «كوكتيل» من كل ما سبق. والحديث المتصاعد عن التعافي من حولنا، ليس حديث «فض مجالس»، حيث يتم تداول أخبار مطمئنة أو إحصاءات مبشرة أو لقاحات فاعلة، لكنه بات حديثاً علمياً عملياً، وهذا لو تعلمون عظيم.

عظمة الحديث عن التعافي من الوباء، يكمن في تحوله إلى منظومة كاملة من التعافي الصحي والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي والنفسي. صحيح أننا في أعماق الموجة الثانية من الوباء، وصحيح أيضاً أننا في المرحلة الأولية من تلقي اللقاحات، وصحيح أن أخبار السلالات الجديدة تتواتر هنا وهناك، وصحيح أن أعتى المنظمات الصحية في العالم، ما زالت تتعامل مع الفيروس الأم «كوفيد 19»، من منطلق «ما نعرفه عن الفيروس حتى الآن»، لكن تجربة البشر مع عام مضى من الفيروس، تنبئنا أن التعافي سيتحقق بإذن الله، وبقدر جيد من عوامل الاستدامة، شرط توافر الرغبة الشعبية والإرادة السياسية.

شركة الأبحاث «إبسوس»، نشرت قبل أيام، نتائج استطلاع رأي أجرته حول توقعات الناس حول العالم، في ما يختص بعام 2021. ثلاثة أخماس المشاركين، قالوا إنهم يتوقعون أن يبقى سكان العالم مرتدين كماماتهم في 2021. وما زاد قليلاً على النصف، قالوا إنهم يتوقعون وباءً جديداً، يسببه فيروس جديد في العام الجديد. وأكثر من النصف قالوا إنهم متأكدون أن اقتصاد بلادهم لن يعود كما كان، عقب انتهاء الوباء. والغالبية اعتبرت عام 2020 عاماً سيئاً، لكن المثير، هو أن ثلثي الناس قالوا إنهم متفائلون بالعام الجديد. وقال 30 في المئة إن العالم سيتغير للأفضل، بفضل أزمة الوباء.

هذه النتائج تعكس واقعية شديدة، لا تخلو من خوف وتوتر، لكن يكللها جميعاً تفاؤل، سببه ما أظهرته البشرية من قدرة على خوض عام هو الأصعب في كنف الوباء، وذلك على الرغم من الخسارة والاضطراب.

لكن الخسارة ليست قاتلة، والاضطراب لم يصل بعد إلى مستويات تهدد البشرية. الأزمة طاحنة، نعم. لكن الفرصة أيضاً سانحة. حركة البيع والشراء المتصاعدة «أون لاين»، وتنامي شركات وتطبيقات توصيل الطلبات، في دول كانت أبعد ما يكون عن هذه المجالات، أمور تعكس قدرة، ليس فقط على التعايش، بل على تحقيق الربح، والتجويد في تقديم الخدمة. قرارات تحويل الدراسة في المدارس والجامعات، من الفعلية إلى «أون لاين»، أو الهجين، وعلى الرغم من مشكلات الاتصال بالإنترنت، وإبقاء الطلاب أمام الشاشات، وتوفير الأدوات التقنية للجميع، لكنها أيضاً تعني أن التكيف نعمة عظيمة.

المؤكد أن الصورة ليست وردية، لكنها أيضاً ليست قاتمة، بل مليئة بنقاط الضوء والتعافي، وهي نقاط تبدأ بالأمل، الذي تتمسك مليارات البشر بتلابيبه، لكنها لا تنتهي عندها، بل تمضي قدماً، إما لتصطدم بجمود الإرادة السياسية، أو بحضورها، وتفاعلها وتبلور إرادتها. أمين عام منظمة الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تحدث قبل أسابيع، عن حاجة دول العالم الماسة إلى اقتصاد من نوع مختلف، من أجل تحقيق واستدامة التعافي. حاجتنا إلى اقتصادات ومجتمعات أكثر إنصافاً وشمولاً واستدامة، باتت واضحة وضوح الشمس. مثل هذه المجتمعات، هي الأقدر على الصمود في مواجهة الكوارث بأنواعها مستقبلياً، والعودة إلى الأنماط القديمة، تؤدي إلى تسارع الانهيار، لا سيما أن «ضربتين في الرأس موجعتان».

الخطوة الأولى في التعافي، تكمن في تأمين الدول للقاح. فاللقاح ليس تأميناً وحماية لصحة الأفراد فقط، لكنه تأمين وحماية لصحة الاقتصاد والمجتمعات. صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حين غرد قائلاً إن الإمارات قطعت شوطاً مهماً في السيطرة على الوباء، وأنها الثاني عالمياً في سباق التطعيم، وموجهاً رسالة للجميع، ليسارع للتطعيم «لأنه حماية للصحة، وحماية للاقتصاد، وحماية لمكتسباتنا، وتسريع تعافي البلاد»، كان واضحاً وصريحاً في نية التعافي ومقوماته.

المجتمع المتعافي من «كوفيد 19»، لا يعني فقط أنها خالية من الإصابات، لكن تعني أنها مؤمنة بالعلم، متبعة خطواته، سباقة في استشراف المستقبل، قادرة على التعايش، وفي الوقت نفسه، التخارج من الأزمة بفكر جديد، وتوجه حديث، وتخطيط يضمن استدامة التعافي.

* كاتبة صحافية

Email