أمريكا الآن وغداً.. أيّ رؤية؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

رؤيتان متناقضتان لحاضر ومستقبل أمريكا يتم ترديدهما الآن في محاولة استكشاف ما قد يحدث في الانتخابات المقبلة وما بعدها أيضاً.

الرؤية الأولى ترى أن الولايات المتحدة قد تشهد أعمال عنفٍ خلال يوم الانتخابات، وفي الأسابيع والأشهر القليلة بعده، بسبب ما ردده الرئيس ترامب من مواقف تؤكد سعيه للبقاء في «البيت الأبيض»، حتى لو جاءت النتائج لغير صالحه.

فترامب يُشكك باستمرار في التصويت الذي يحصل الآن من خلال أجهزة البريد ويريد من الناخبين الاعتماد فقط على التصويت المباشر في مراكز الاقتراع رغم قانونية التصويت عبر البريد في العديد من الولايات.

وهذه الرؤية الأولى تجد فيما يحصل الآن من انقسامات حادة، ومن تضاعف أرقام شراء الأسلحة لدى الأمريكيين، ومن نمو دور الجماعات العنصرية المسلحة الداعمة لترامب، بأن ذلك كله مؤشرات على إمكانية حدوث ما يشبه حرب أهلية جديدة.

الرؤية الأخرى المناقضة، لا تجد أن الأمر سيختلف كثيراً عن الانتخابات السابقة، وبأن الرئيس ترامب سيضطر إلى مغادرة «البيت الأبيض» فور انتهاء مدته الدستورية مع نهاية الشهر الأول من العام المقبل، في حال عدم فوزه، وبأنّ أقصى ما يمكن حدوثه من أزمة سياسية في حال اعتراضه على النتائج هو اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا التي ستحسم الأمور دستورياً.

فما مدى صحة التوقعات لدى كل من الرؤيتين، وهل يمكن حسم أي اتجاه تسير إليه الولايات المتحدة في هذه المرحلة؟! الإجابة في تقديري ستكون ممكنة فقط في الأسبوع الأول من نوفمبر المقبل.

فالحيثيات التي على أساسها بنت الرؤية الأولى توقعاتها التشاؤمية هي فعلاً قائمة الآن في المجتمع الأمريكي وتُهدد بمزيد من المخاطر على وحدة الأمريكيين واستقرارهم الأمني والسياسي.

في المقابل، ما تعتمد عليه الرؤية المناقضة هو أيضاً جدير بالاعتبار بسبب ما حدث في التاريخ الأمريكي من حالات عنف داخلي ارتبط معظمها أيضاً بمشكلتي العنصرية وشيوع التسلّح، منذ النشأة الأولى للولايات المتحدة وفي ماضيها كله، لكن جرى تجاوز هذه الحالات وتطوير النظام السياسي لصالح الحفاظ على وحدة الولايات والمجتمع.

إن العامل المهم الذي يمنع التنبؤ بالمسار الذي عليه الحاضر والمستقبل الأمريكي هو وجود «ظاهرة ترامب» التي لم تشهد البلاد مثيلاً لها في السابق مع أي تجربة رئاسية أخرى، هذه الظاهرة التي تساهم في إشعال نار الفرقة بين الأمريكيين.

وصحيح أن ثلاثية قضايا الصحة والاقتصاد والعنصرية هي التي تهيمن الآن على المناخ السياسي المحيط بالانتخابات، وهي القضايا التي تعمل لغير صالح حملة ترامب، لكن مراهنته هي على ما يقوم به من حملات سياسية وشعبية يخاطب بها قطاعات مختلفة من الناخبين بما يمكن وصفه باللعب على الوتر الحساس لدى كل منها.

فهو يخاطب العنصريين البيض بما فعله ضد المهاجرين من الدول اللاتينية ومن بعض دول العالم الإسلامي، وبدعمه الكبير لأجهزة الشرطة وبرفضه لإدانة الجماعات العنصرية.

وترامب يخاطب المسيحيين البروتستانت المحافظين بتبنيه لأجندتهم السياسية والاجتماعية وباختيار مايك بنس كنائب له. ويخاطب المسيحيين الكاثوليك بالقول إن الديمقراطيين يؤيدون الإجهاض المخالف لتعاليم الكنيسة. ويخاطب اليهود بأنه أفضل صديق لإسرائيل من أي رئيس سابق. ويخاطب حملة السلاح بأنه سيحمي حقهم الدستوري في ذلك وهو يتلقى دعماً كبيراً من «رابطة حملة السلاح».

ويخاطب عموم الأمريكيين بتخويفهم على مصير اقتصادهم ومدخراتهم من عناصر التيار التقدمي في «الحزب الديمقراطي» ويتهمهم بالشيوعية، ما يُذكّر الأمريكيين بأسلوب «المكارثية» في خمسينات القرن الماضي.

وقد مهّد ترامب أيضاً لإمكانية رفضه لنتائج الانتخابات، في حال عدم فوزه، من خلال تشكيكه بالتصويت عبر البريد وبتعينه شخصاً داعماً له على رأس مؤسسة البريد، وبإصراره على تعيين القاضية المحافظة في المحكمة العليا قبل الانتخابات لتكون كفة المحافظين في المحكمة راجحة لصالحه في حال اللجوء إليها لحسم النتائج.

الانتخابات الرئاسية القادمة هي الأهم في التاريخ الأمريكي. فما حدث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في العام 2016، وفوز ترامب بالرئاسة، كان يمكن اعتباره بمثابة «انقلاب مضاد» قام به الأمريكيون المحافظون المعتقدون بضرورة الحفاظ على أمريكا البيضاء الأوروبية الأصل، ضدّ «الانقلاب الثقافي» الذي حدث في أمريكا في العام 2008 من خلال انتخاب باراك حسين أوباما، وما رمز إليه انتخابه من معانٍ مهمة في مجتمع أمريكي نشأ واستمر لقرون ماضية بسِماتٍ «أوروبية – بيضاء- بروتستانتية»، وبتاريخ من العنصرية المُستعبِدة ضدّ ذوي البشرة السوداء.

وستكون انتخابات نوفمبر حاسمة لتقرير مستقبل أمريكا السياسي والأمني والاجتماعي، فالمجتمع يشهد الآن درجات عالية من التحزّب، ولن يكون من السهل إعادة وحدة الأمريكيين أو صون تنوّعهم الثقافي والإثني إذا تم تجديد انتخاب ترامب لولاية ثانية.

المجتمع الأمريكي يعيش حالة انقسام شديد بين مؤيدي ترامب وما يرمز إليه من «أصولية أمريكية»، وبين معارضيه الذين ينتمون إلى فئات متنوعة اجتماعياً وثقافياً وعرقياً، لكن يجمعهم الهدف بضرورة عدم التجديد لترامب في الانتخابات الرئاسية. فعلى سطح الحياة السياسية الأمريكية هو صراع بين «الحزب الجمهوري» و«الحزب الديمقراطي»، بينما الصراع الحقيقي هو الآن بين «أمريكا القديمة» و«أمريكا الحديثة».

 

*مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن

 

Email