المسوّغات الاقتصادية للاستدامة البيئية في مجلس التعاون الخليجي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بات التوجه نحو الاستدامة البيئية المعيار الجديد في مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي يوفر لدول مجلس التعاون الخليجي الفرصة لأخذ زمام المبادرة، عبر تغيير منطق التعامل مع الاستدامة، ووضع السياسات الوطنية اللازمة لتحقيق ما يزيد على 2 تريليون دولار من النمو الاقتصادي، واستحداث أكثر من مليون فرصة عمل بحلول 2030.

وفي الماضي غير البعيد، كانت الاستدامة البيئية مضماراً للناشطين والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، أما اليوم فأصبح الأداء البيئي لكبرى الشركات العالمية هاجس المستهلكين والمستثمرين والمقرضين، لذا يشهد القطاع الخاص تغييراً جذرياً وأساليب عمل جديدة، تفرض أجندة بالاستدامة على قرارات الأعمال والاستثمار، فعلى سبيل المثال، أعلنت «BlackRock»، واحدة من أكبر شركات إدارة الاستثمارات على مستوى العالم، وهي تدير أكثر من 7 تريليونات دولار أنها ستنسحب من كل الاستثمارات، التي تنطوي على مخاطر استدامة بيئية عالية.

ودفع هذا شركات مثل «أمازون، وميكروسوفت، ودلتا للطيران، ويونيللفر»، إلى التعهد بأن تصبح خالية تماماً من الكربون في غضون الأعوام العشرة إلى العشرين المقبلة. كما تخطط العديد من شركات النفط والغاز للابتعاد عن الطاقة المرتكزة على الكربون واستبدالها بالطاقات المتجددة. ورفعت شركة «بريتيش بتروليوم» مؤخراً سعر الكربون في فرضياتها التخطيطية من 40 دولاراً للطن إلى 100 دولار للطن بحلول 2030.

وتجمع هذه الشركات على اعتبار الاستدامة فرصة لا عبئاً، ويشكل هذا تحولاً جذرياً في منطق التعامل مع القضية، وهو ما تستطيع حكومات دول مجلس التعاون والشركات المملوكة للدولة أن تتبناه للخروج من منطق تسوده المخاوف من أثر الاستدامة البيئية على التنمية الاقتصادية.

ورغم أن بعض حكومات دول مجلس التعاون أطلقت خططاً طموحة، خصوصاً في مجال الطاقة المتجددة، فإن ما تحتاج إليه هو تغيير شامل في منطق التعامل مع هذا الملف. ولا بد أن يكون المنطق الجديد هو أن الاستدامة تشكل فرصة للنمو الاقتصادي، والتنمية الصناعية، والابتكار.

ولا بد أن يغطي النهج الشامل جميع الصناعات والأنشطة الاقتصادية، ومن الممكن أن تدرّ المبادرات الناتجة أكثر من 2 تريليون دولار من القيمة، وتستحدث أكثر من مليون وظيفة في مختلف أنحاء المنطقة بحلول 2030، وهذا من شأنه أن يسمح بتحقيق أعلى استفادة من مزيج الطاقة بالاستعانة بتركيبة من الموارد الهيدروكربونية المنخفضة التأثير على البيئة والموارد المتجددة المنخفضة التكاليف، كما يمكن للمبادرات استغلال الموارد المتجددة الوفيرة في المنطقة لتصنيع منتجات خالية من الكربون (أو حتى سلبية الكربون) للتصدير، واستحداث فرص عمل مؤكدة في المستقبل لمواطني المنطقة.

وستشمل هذه التغيرات انخفاض استهلاك الموارد مثل الوقود والكهرباء من خلال إصلاح آليات الدعم، ومعالجة النفايات باعتبارها مورداً، وإقامة بنية تحتية دائرية في مشاريع المدن الضخمة. وبوسع دول مجلس التعاون الخليجي أن تدير مواردها المائية الشحيحة على نحو أفضل، من خلال تحلية المياه المستدامة أو التي لا تُنتج أي نفايات. وينبغي لها أيضاً أن تبني الجيل التالي من أنظمة النقل المستدامة، وأن تدمج التفكير المستدام في التخطيط الحضري لتحسين نوعية الحياة في المدن. وفي مجال الزراعة، تستطيع هذه الدول أن تعزز الأمن الغذائي من خلال الابتكار في الزراعة المحلية المستدامة، ومصائد الأسماك، والاقتصاد البيولوجي، مع العمل على وضع آليات مرتكزة على السوق لإبقاء الأراضي المهمة بيئياً غير مطورة لفترة من الوقت للمحافظة على التنوع البيولوجي واستحداث فرص للسياحة البيئية.

وتحتاج هذه التغييرات إلى دعم من الحكومة وهو ما يتطلب تغيير السياسات، ويتمثل أحد هذه التغييرات في جعل الاستدامة جزءاً لا يتجزأ من جميع الاستراتيجيات القطاعية عبر الأجهزة والمبادرات الحكومية. علاوة على ذلك، يتعين على الحكومات تنسيق جهود كل الوزارات في إطار وطني أوسع، لأنّ الاستدامة تشمل كل القطاعات. ويتعين على صانعي القرار في الحكومة والمؤسسات المملوكة للدولة البحث عن فرص تعزيز الكفاءة التشغيلية، وتقليص التكاليف، والاستفادة من النمو الذي تحدثه الأسواق والمنتجات الخضراء.

وهناك تغيير آخر في السياسات يتلخص في ضرورة أن يكون لاستثمارات الاستدامة مسوغات اقتصادية واضحة، تستند إلى منهجية دقيقة وقوية لقياس العائدات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، وهو ما ينبغي أن ينطبق على جميع المبادرات الحكومية، وهذا من شأنه أن يسمح لصانعي القرار بمقارنة خيارات السياسة عبر التخصصات والقطاعات أثناء عمليات رصد الميزانية وتخصيص الموارد المالية والإدارية.

ويتمثل التغيير الأخير في السياسة في استحداث أنظمة شفافة وموحدة وشاملة للقياس والإبلاغ لتقييم أداء المبادرات والإبلاغ عنه. ويصعب على وجه الخصوص قياس العائدات البيئية والاجتماعية، لأنها بطبيعتها أكثر عرضة للتحريف من العائدات الاقتصادية. ويعني هذا تنظيماً منهجياً وتدقيقاً من جانب أطراف ثالثة مستقلة، ولا تستطيع الحكومات أن تحافظ على صدقية أجندة الاستدامة إلا إذا نجحت في تحقيق الأهداف الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.

التحول إلى الاستدامة البيئية سيكون أسرع مما نتوقع جميعاً، ولا يمكن أن تتغاضى حكومات دول مجلس التعاون عنه، وفي مقدور هذه الدول، من خلال اعتبار الاستدامة البيئية فرصة وليست تكلفة، أن تسرّع الجهود القائمة وتحوّل مجلس التعاون الخليجي إلى جهة رائدة في جني الفرص الاقتصادية، التي يوفرها مجال الاستدامة البيئية.

شركاء في «استراتيجي آند الشرق الأوسط»

Email