تركيا تترنّح اقتصادياً وقادتها في تخبّط

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كانت الاقتصادات الكبرى تأثرت سلباً بتداعيات «كورونا»، فما بالك بالاقتصاد التركي، الذي يعاني أصلاً من خلل هيكلي، جراء السياسات الحمقاء لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وأحلام زعيمه الطوباوية، التي أدت إلى خوضه معارك على جبهات عدة، وتخندقه في المعسكر المعادي لمصر والسعودية والإمارات والبحرين، وتخريبه لعلاقات بلاده مع حلف الناتو.

فقيمة الليرة التركية في الحضيض، واقتصاد تركيا وتجارتها مهددان بعقوبات قاسية من جانب الأوروبيين والأمريكيين، بسبب خروقاتها للقانون الدولي، وعملياتها غير المشروعة شرق المتوسط، ضد قبرص واليونان، وإرسالها للمرتزقة للقتال في ليبيا، واستهدافها أكراد سوريا.

لكن إذا ما حصرنا حديثنا هنا في أوضاع تركيا الاقتصادية المتدهورة، نجد أنها حصيلة لتراكمات طويلة، من سوء التخطيط والفساد والمحسوبية، وتفضيل المحازبين والأقارب في الصفقات الحكومية، من تلك التي وقف وراءها أردوغان شخصياً، مع صهره وزير الاقتصاد بيرات البيراق. وذلك بمعنى أن اقتصاد البلاد، كان أصلاً في حالة صعبة، حينما ضربته موجة «كورونا» هذا العام.

يقول تقرير نشرته صحيفة «فايننشال تايمز»، مؤخراً، ما مفاده، أن تركيا اليوم إحدى أكثر الدول النامية لجهة هروب المستثمرين الأجانب منذ انتشار الوباء، ثم لجهة تكالب الناس على تحويل مدخراتهم من الليرة إلى الدولار.

دعونا نتحدث في هذا السياق بالأرقام. تقول الأرقام إن النمو الاقتصادي تراجع بنسبة 10 %، وأن الميزانية العامة للدولة، باتت تشتكي من عجز يصل إلى نحو 21 مليار دولار، وأن الدين الخارجي المستحق، ارتفع إلى 431 مليار دولار، وأن حجم الأموال التي خرجت من البلاد، تجاوز 6.7 مليارات دولار. هذا علاوة على وصول معدل البطالة بين الشباب إلى 34 %، ووصول نسبة التضخم إلى أكثر من 15 %.

وربما لهذا السبب، تحاول حكومة أردوغان إيجاد مخرج لأزمتها وفشلها أمام الأتراك، باللجوء إلى مغامرات خارجية، ليس لصرف أنظار الداخل عن مأزقها فقط، وإنما أيضاً لوضع يدها على مصادر تمويلية وثروات أجنبية، تخفف بها مشاكلها المالية، وتعزز من خلالها حصيلتها من النقد الأجنبي.

فمثلاً، تدخلها المسلح الفج في ليبيا الغنية بالطاقة، ومخططاتها للتنقيب عن النفط والغاز في مياه شرق المتوسط، ناهيك عن سرعة إرسالها لقواتها إلى الدوحة، دعماً لنظام الحمدين، كلها خطوات لا تفسير لها سوى ذلك. وبالعودة إلى تقرير «فايننشال تايمز»، نجد أن حكومة أردوغان، قامت بجملة من الإجراءات المالية الداخلية، لكبح جماح انزلاق البلاد نحو المزيد من التخبط والإفلاس.

من تلك الإجراءات، قيامها بالتدخل في سعر صرف الليرة التركية من وقت إلى آخر، بالرغم من أن سعرها نظرياً معوم، وليس ثابتاً. ومنها تجفيف السيولة بالليرة في الأسواق المحلية أمام المتعاملين بمقدار النصف، وبيع الدولار من خلال البنوك العامة، مستنزفة بذلك المليارات من احتياطات البلاد من العملة الصعبة، وفرض ضرائب على معاملات الصرف الأجنبي، لوقف عمليات التحويل.

وتكتمل هذه المعلومات، بما كتبته صحيفة «هاندسبلات» الألمانية، مؤخراً، من أن الشركات التركية الخاصة، باتت مثقلة بديون خارجية، قيمتها 175 مليار دولار، وأن انخفاض قيمة الليرة، يجعل من خدمة فوائد هذه الديون مكلفة جداً، علاوة على ما يتكبده قطاع السياحة التركي من خسائر كبيرة، في ظل استمرار حظر ألمانيا والدول الإسكندنافية لسفر مواطنيها إلى تركيا، بسب وباء «كورونا».

لكن ثبت عملياً فشل كل تلك الإجراءات، بدليل أن سعر الليرة انخفض بنسبة 24 % منذ بداية العام الجاري، وانخفض بنسبة 87 % منذ مايو 2018، علما بأنها خسرت في أغسطس المنصرم، نسبة جديدة من سعرها، بلغت 6 % خلال يومين فقط، لتنخفض قيمتها إلى 7.37 مقابل الدولار.

أما في ما خص علاقة الليرة باليورو، فإن الأولى واصلت تراجعها مقابل الثانية. فعلى حين كانت قيمة الليرة 6.65 مقابل اليورو الواحد، بداية العام الجاري، تجاوز سعر اليورو اليوم، حاجز ثماني ليرات.

وهكذا بدأت الخيارات تضيق أمام البنك المركزي التركي، المسيطَر عليه من قبل أردوغان ومحازبيه. ولم يعد أمامه سوى رفع سعر فائدة التمويل للمصارف. وعلى الرغم من أن أردوغان عارض هذا الأمر ظاهرياً، إلا أنه عملياً جرى العمل به.

فرفع البنك المركزي سعر الفائدة من 7.7 % إلى 9.3 %، أواخر أغسطس الماضي. في هذه الأثناء، تكثر الشائعات حول احتمال قيام أردوغان بفرض قيود على تنقل الرساميل، غير أن مثل هذه الخطوة، مكلفة جداً.

والحال أن تركيا في أزمة اقتصادية متفاقمة، ولن تنقذها المساعدات المالية القادمة من قطر، وبالتالي، فربما ليس أمامها سوى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي. لكن كيف يساعدها الصندوق، وهي التي لم تبقِ لنفسها صديقاً ضمن القوى الكبرى المسيطرة على سياسات الصندوق، وعلى رأسها الولايات المتحدة؟.

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

 

Email