الرغيف المحترق!

ت + ت - الحجم الطبيعي

شكا رجلٌ إلى طبيب وجعاً في بطنه، فقال الطبيب: ما الذي أكلت؟ قال: أكلتُ رغيفاً محترقاً، فدعا الطبيب بكُحل ليُكَحِّل عينيه، فقال الرجل الموجوع: إنّما أشتكي وجعاً في بطني، لا في عيني، قال الطبيب: أعرف ذلك ولكن أكحّلك لترى المحترق أنه محترق فلا تأكله!
أحياناً تختلط علينا بعض الأمور الملتبسة والتي بينها شبهٌ إلى حدٍّ ما، ولا تثريب في ذلك، فالأبيض قريب من الرمادي الفاتح، والأصفر من البرتقالي، وكأس زجاجية مملوءة بالكولا قد يظنّها آخر ممتلئة بقهوة الأمريكانو، وأمثال هذا الوضع كثير، والخطأ فيه مغتفر واللّبْسُ فيه ليس مما يُعاب عليه الإنسان.

ما يُعاب ويُستشنع أنْ نظن الأسود أبيض، والمحترق صالحاً للأكل، والخبيث طيّباً، والأسوأ منه، عندما نعرف أنّه خطأ، لكننا نتجاوز عنه، أو نُصاب بحالة فقدان ذاكرة مؤقت عند ارتكابه، أو أنْ نجيز لأنفسنا لكي «ننتقي» من يعتبر هذا الأمر صواباً معه، ومن يُعتبر ارتكاب نفس الأمر معه خطأ!

أصاب شخصياً بالصدمة وأنا أرى حسابات أُناس عُقلاء على منصات التواصل والواحد منهم يملؤها بالأحاديث النبوية التي تحث على مكارم الأخلاق، ويُسارِع لأي قصة جميلة عن قيم وأخلاق العرب تأتيه على «الواتساب» ليضعها هنا ويوزّعها هناك، وينشر لأكثر من مرة حديثه صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطّعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء»، ثم تنصدم وأنت تراه بعدها يكيل الشتائم ويقع في بذيء الكلام وفاحشه الذي كان قبل قليل ينهى عنه، وإنْ عاتبه أحد، قال إنّ هؤلاء «يستاهلون»!

في مثل هذا، يقول المولى سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ»، فالسؤال الإلهي هنا للتوبيخ، وليس للاستفسار عندما يُغاير فعل الإنسان قوله، ويكفي لعظمة هذه الـ«شيزوفرينيا» الأخلاقية أنها مما كبر مقته عند جبار السماوات والأرض، فالصواب ما قرره المولى سبحانه، وبلّغه رُسُله (عليهم السلام)، ودعت إليه الفطرة السليمة، وانتقاء من «يُطبّق» عليهم ذلك التوجيه حسب المزاج تألٍّ على الله، واستدراك لأوامر نبيه (صلى الله عليه وسلم) نسأل الله السلامة.


هناك مقولة غربية تقول: «الأسواق تتأرجح وليس المبادئ»، فأسواق المال ترتفع وتنخفض وتتبدّل قوانينها، لكن المبادئ لا يجوز، بل ولا يليق بها، التبدّل حسب تغير المصالح أو الأهواء، وفي ديننا لا مكان لازدواجية المعايير لمن يتّبع فعلاً هذا الدين، فهذا سيّد الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم) عندما استشفع أسامة بن زيد في المخزومية التي سَرَقت، غضب (عليه السلام)، ثم قال للتأكيد على عدم جواز تلك الازدواجية أو الانتقائية في تطبيق الأوامر والنواهي: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».

إنّ صاحب المبادئ لا يتغيّر، وصاحب القيم لا يتنازل عنها، مهما كثرت مزادات التنازلات وعَلَت أصوات المتلونين. عندما كان يوسف (عليه السلام) في السجن قيل له: «إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»، ولما صار على خزائن مصر ونال السلطة والمنصب الرفيع، لم يتبدّل، بل بقي ناصعاً كالشمس، نقياً كالماء، طاهر الثوب كنسمات الصباح، فقيل له مرةً أخرى: «إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

ليس المطلوب أن يكون الإنسان معصوماً، فذلك متعذّر، فكلنا بشر خَطّاؤون، ولكن المطلوب أن يقف كلٌّ مِنّا مع نفسه ويراجعها، هل هو ممن يأمر بالخير ولا يأتيه، أو ينهى عن سيئ الأقوال والأفعال ويأتيها؟ ضوضاء الدنيا مِن حولنا لن تُغيّر شيئاً من الحقائق، فالخطأ لن يتحوّل بضجيجهم إلى صواب، والمحمود عند الله لن يُصبِح مذموماً لأن التيّار لا يتقبله، وعندما تسقط الأُمم في اختبار القيم تسقط لا محالة في اختبار البقاء، فلنراجع أنفسنا لنرَ إنْ كنّا نهتدي بهدي سيد البشر وخيرهم، أم نحن ممن يأكل الرغيف المحترق!

Email