دمعة ساخنة على خد بيروت

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تُستحضر بيروت تنهمر الأغاني، ويرقّ قلب الشعر لمدينة مَن زارها ولم يقع في هواها فهو ليس عاشقاً، ولا مسّه جنُّ الشغف.

بيروت الآن تئنّ، كما لم تئن من قبل، فالحرائق تندلع في دمها، وما من منزل في أحيائها إلا وذرف الدمع الساخن، وبلّل الزجاج المتناثر على الشرفات، وقرب النوافذ المهشمة.

لقد كان الانفجار الزلزاليّ الذي عصف بمرفئها أكبر من أن تحتمله مدينة أثخنت جراحها الحروب، وعاث فيها اقتتالاً تجّار الدم، والمقامرون بأهلها وأرْزها ومستقبلها، من أجل حفنة من شعارات مرتجفة تنجب أغاني مبتورة عن «ثورة تولد من رحم الأحزان»!

بيروت قبل الانفجار «الهيروشيمي» للمرفأ كانت تكابد العذاب، وكان اللبنانيون يعانون الأمرّين، وبعضهم لا يجد كِسرة خبز يسدّ بها رمقه، وأضحى بعضهم بلا مأوى.

وبحسب تقارير، يعيش نصف اللبنانيين تقريباً اليوم تحت خط الفقر، ولامس معدل البطالة 35 في المئة، في حين تروي منابر إعلامية مشاهد مرعبة عن أمهات يقايضن، على مواقع التواصل الاجتماعي، ثيابهن أو مقتنيات منازلهن بحليب وحفاضات أطفالهن، في حين يختار البعض الانتحار كهروب من هذا الجحيم الذي لم يتوقع أكثر المتشائمين أن يصل لبنان إلى حضيضه.

لا يليق باللبنانيين هذا الحال، ولا يليق كذلك بأي شعب على هذه البسيطة. لكنّ الذي يمنح لبنان السخاء في الأسى أن البلد، الذي وهب العالم العربي أرقّ ما فيه، ورصّع المخيلة بالجمال، وأثرى الوجدان العربي والعالمي بالفن والأدب، يعاني الآن ويترنح بين الكينونة والعدم.

الآهات التي يزفرها اللبنانيون الآن مجبولة بالغضب العاري والمرارة الكاوية، فهم اعتادوا أن يكونوا في عزة وأنَفة، وظلّ اللبناني، ابن بلاد الأرْز العريقة، معززاً مكرماً، رجلاً كان أو امرأة، لأن لبنان أرض الكرامة والشعب العنيد.

لا يتعيّن على لبنان أن يهان. المهانة لا تليق بالبشر الأحرار. لذا وجب إنقاذ لبنان من محنته التي تختلف عن كل المحن التي كابدها. وجب علينا جميعاً أن نهبّ لنجدة لبنان، وأن نمسح عن خده الدمع الساخن، كي يبقى شامخاً فلا ينحني أو ينكسر، فانكسار لبنان يعني انكسار الروح العربية، وانهدام عرش الجمال والحب.

لبنان ليس لأهله فقط، بل لنا جميعاً نحن أهل الإنسانية وأبناء العروبة المرميّين من الماء إلى الصحراء. ولو أن أحدنا فتّش في ذاته لوجد قطعة من لبنان عالقة بأهدابه.

وهذا حُكم إطلاقي لا استثناء فيه، وليتفقّد كلُّ واحد لبنانَه في قانون عيشه وفي ذوقه ولباسه وأكله وأغنياته والقصائد التي يردّدها في سرّه وعلانيته. والأهم من ذلك ليتفقّد حلمه الذي إن لم يضمّخه سحرُ لبنان، فلا كان حلماً.

الشعب العنيد سيبقى عنيداً، وهو يعرف طريقه نحو الثورة والحرية والاستقلال. فهو قبل تفجير المرفأ كان يملأ الشوارع هديراً، مطالباً باجتثاث الطبقة الفاسدة، ومخلخلاً بإيمانه كلَّ الثوابت و«الأصنام» التي تسيّدت على لبنان عقوداً، وآن لهم أن يحطموها، ويمنحوا هتافهم آفاقه التي بلا حدود: «كلّن يعني كلّن».

لبنان لن يطأطئ رأسه لأحد، وسينهض، عما قليل، من ركام آلامه، وستشرق شمسه، وسينبعث أبناء الأرْز كطائر الفينيق أو كالعنقاء من الرماد. نحن بحاجة إلى استعادة لبنان المخطوف، لبناننا الذي نهوى ونعلّق على أهدابه الأمنيات بأن ينفض عن كاهليه الدم وغبار الحروب والانفجارات، ويعود سيداً مستقلاً، لا كما يريده بعض الغاضبين الناقمين «تحت الاحتلال الفرنسي!» مرة أخرى.

في أغنيتها الشهيرة «زنوبيا»، يهتف صوت فيروز الذي يُخيط الأرض بالسماء: «انهدم البرج، انكسر السور»، و«بس اللي بيبقى الوحدو بيبقى شرف الوقفة، صرخة بوجي الظلم». ولما تُسأل زنوبيا أن تهرب، ترد عليهم «وإنتو؟» فيكون الجواب المنقوش في ذاكرة الأبد: «نحنا منبقى، نحنا عشب الأرض».

 

 

Email