أمرّ بكَ بلا أيّة لهفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أشيحُ بوجهي عنكَ، وأنتَ أخي وابن ذاكرتي. أنكركَ وتنكرُني، وننسى ما بيننا من ضحكات ودموع. أمرّ بكَ بلا أيّة لهفة، وتصافحني بلا أيدٍ، ولا نلتقي حتى كغرباء. ربما أموتُ غداً، وربما تموتُ قبلي.

ربما تذرفُ كلاماً منمّقاً فيه قليلٌ من الندم على لحظة لم تحسمْ فيها أمرَك، ولم تتطاولْ على غطرستك، وتهزّني من كتفيّ، وتقول: لستَ ابن أمي، ولكنّك ابنُ قلبي. وربما لا تفعل، تاركاً للوحش الذي في داخلك أن يتربّصَ بوحوشي، وماضياً نحو التراب، وفانياً، وآفلاً، ومطعوناً بالنسيان!

في داخل كلّ منا قاتل وقاتلة. دعكم من الكلام المجافي للحقيقة عن الرحمة بين الناس، فثمة بين هؤلاء كواسر ضارية، لن تذرف ولو آهة خاطفة على موت سريع لصديق أو رفيق أو زميل تشاطرنا معه «سندويشة فلافل». تعطلت الحواس، وانعدمت الشفقة، وتلك حال كثيرين جعلت منهم الحياة شواهد قبور معتمة، ليس أكثر.

ترجّل الحنين إلى الذكريات، وانطفأت قناديل كثيرة على شرفات البشر. ليس للأمر علاقة بالحروب والزلازل العاتية والجائحة الأخيرة، فنحن متباعدون اجتماعياً قبل (كوفيد 19). إنّ علاقتها وثيقة بانعدام الوزن، وضياع البوصلة، وانهيار المنظومة الأخلاقية.

يقرأ نعيَ صديقه الأثير، وهو يتناول عشاءه، فيكتب سطرين سريعين على «فيسبوك» عن الأسى والفقدان، ثم يواصل مضغ طعامه حتى التجشؤ، ويتابع بعدها مشاهدة التلفاز، أو سماع أغنية خطرت على باله، وينسى أمّ الفقيد وأبناءه وزوجته، وتلك اللحظات التي رصّعت عمراً بأكمله لم يكن ليشرق لو أنّ الفقيد لم يكن في حياة ذلك الصديق المتجشئ.

سوداوية هي الوقائع، وبائسة هذه الكلمات، لكنها حقيقية، فما الذي تغيّر فينا، وماذا تهدّم في مشاعرنا حتى بتنا فاقدين للجاذبية البشرية، التي تقرّب بين الناس وتحنو عليهم، وتفيض على آلامهم بلسماً؟

لعله الزمن المتوحش، الذي حوّل البشر إلى ذئاب إن لم تأكل الآخرين أُكلت؟

هل ننحو باللائمة على التكنولوجيا الحديثة، التي جعلت البشر براغيَ صغيرة في نظام عملاق لا قيمة فيه للكائن إلا بصفته رقماً في ماكينة الإنتاج؟

وهل نشجب العزلات المتكاثرة التي تردّد التعويذة المقيت: «اللهم نفسي»، وننسى في غمرة ذلك أحزان الناس وأشواقهم، فلا يسأل الإنسان عن أبيه ولا أمه أو أخيه، ويسدّ باب العلم بالشيء؛ كي يتخلص من ندم محتمل؟

هل سقطت أو تآكلت مقولة «الناس للناس»، فأضحى من ينتسب إلى هذه القافلة واحداً من كائنات توشك على الانقراض، ويظن المراقبون لها بأنها لا تفعل هذا الشيء إلا لسبب في نفس يعقوب. لقد سُحقت البراءة التي يتعين أن تكون سمة البشر الطبيعيين، وصارت عنواناً للبُلَهاء.

وإن كانت هذه الكتابة توشك أن تعطي انطباعاً بأنها تعمّم، وتتجاهل أنّ الخير باقٍ، فهذا ليس مقصدَها، لأنها تدرك أنه «إنْ خِلْيت بِلْيت»، ولكنّ المرء هنا يشير إلى الظاهرة العامّة الطامّة التي تسيطر على حركيّات الناس، وتحكم سلوكهم، بحيث يكون نفعياً بامتياز، إذ المصلحة أعلى من كل شيء، في حين يتردّد السؤال، كلما همَّ المرء بشيء: ماذا سأستفيد؟ كل أمر أضحى مرهوناً بمقدار المكاسب. لا شيء لله، أو كما يقول المثل الشعبي «لا شيء ببلاش إلا العمى والطراش».

ربما تكون هذه العلامات الضارية دلالة على انقراض الكائن الخيّر، الذي نظّر له فلاسفة الأخلاق فرأوا، في بحبوحة من الزمن، أنّ الإنسان يميل بطبعه إلى عمل الصائب والنافع ويسلك الدروب الصحيحة، بيْد أنّ الوقائع الآن اختلفت، فالكل يلهث وراء المال والمناصب والمنافع والرفاهية الأنانية، ولو أنّ شخصاً سأل هؤلاء عن أكثر ما يشغلهم ويسيطر عليهم، لأجابوا بلا تردد: المال، وأحياناً تجد من يقول، من دون أن يرفّ له جفن: المال بأية وسيلة، ولنا أن نتخيل ما تستبطنه عبارة «بأية وسيلة»، فما الشر المنتشر في أرجاء هذا الكوكب إلا نتاج حتمي لـ«بأية وسيلة».

لذا لا غروَ أن يمرّ بك صديقك الأثير الحميم بلا أية لهفة، كأنّك لم تكن، فتُنسى، كما قال الشاعر، «كمصرع طائر، ككنيسة مهجورة تُنسى، كحبّ عابر، وكوردة في الريح».

 

 

Email