جيل يسلِّم جيلاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

فقدت الإمارات خلال هذا الشهر اثنين من أبنائها الذين رسموا معالم جيل من أجيال هذا الوطن، الذي ما فتئت أرضه تنجب قامات إثر قامات، لتؤكد أنها أرض لا ينضب معينها، وأن كل جيل يسلم الراية إلى الجيل الذي يأتي بعده، وهو واثق من أنه قادر على حمل هذه الراية، والمضي بها إلى الأمام دون تراجع.

فقد انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم السابع من شهر يوليو، الأخ والصديق محمد سلطان سعيد، صاحب الابتسامة التي لا تفارق محياه، والقلب الذي لم يحمل حقداً لأحد، واللسان العفيف الذي لم ينطق يوماً كلمة سوء في حق أحد. كان يجتمع في مجلسه الأصدقاء من مختلف المشارب، فلا تجد بينهم تنافراً، حيث كان يحتوي الجميع بمحبته وابتسامته، وإشراقة روحه التي تأسرك بلطفها.

كان، عليه رحمة الله، قارئاً نهماً، إذا أعجبه مقال في جريدة، اتصل بكاتبه يثني عليه حتى لو كان هو في أقصى الأرض. أذكر أنه اتصل بي ذات مرة من الولايات المتحدة في مثل هذه الأيام المباركة، يوم عيد الأضحى، ليبدي إعجابه بمقال كتبته في ذلك اليوم عن حال الأمة، وعنونته «أمة تنتحر».

لم أكن أعلم يومها أنه كان يتلقى العلاج هناك، ولم يتطرق هو لموضوع المرض، لولا أن أخبرني الصديق بلال البدور بذلك. أحسست وهو يحدثني وكأنه في رحلة سياحية، أو كأنه يقضي عطلة العيد هناك، في الوقت الذي كان فيه يواصل العلاج من المرض الخبيث، وكان يفتك به دون أن يُشعِر أصدقاءه بذلك.

ومثلما جاء كالنسمة العليلة إلى الحياة، غادر في دعة، تاركاً ضجيج الألم الذي أحدثه في قلوب محبيه الذين سيفتقدونه ويشتاقون لمجلسه وطلته الأنيقة وهو يستقبلهم ويودعهم بتلك الابتسامة التي لم تكن تفارق وجهه.

وقبل أن يطوي الشهر أوراقه ويرحل، فُجَعنا برحيل ابن آخر من أبناء الإمارات البررة، هو الدكتور حسين غباش، عليه رحمة الله، الذي رحل عن دنيانا يوم الحادي والعشرين من الشهر.

كان حسين غباش، عليه رحمة الله، واحداً من رموز المد القومي الذي وصل الإمارات قبل قيام الاتحاد متأثراً بثورة 23 يوليو في مصر ورمزها الأكبر، الرئيس جمال عبدالناصر، كما كان محمد سلطان، عليه رحمة الله، من المتأثرين بالمد نفسه أيضاً. وكان ينتمي إلى أسرة زرعت في قلوب أبنائها حب القومية العربية، والدتهم السيدة عوشة بنت حسين، عليها رحمة الله.

ومن يقرأ كتاب شقيقته الدكتورة رفيعة غباش «امرأة سبقت عصرها» يجد فيه من مواقف هذه المرأة، التي سبقت عصرها فعلاً، يستطيع أن يدرك كيف تكونت شخصيات أبنائها وبناتها، وكيف اتخذوا لأنفسهم مسارات واضحة، تلتقي كلها عند حب وطنهم الصغير الإمارات، ووطنهم العربي الكبير، وظلوا أوفياء لهذا النهج رغم التحولات الكثيرة التي حدثت وجعلت الكثيرين يتحولون عن مواقفهم، فقد بقي أبناء عوشة بنت حسين، عليها رحمة الله، عند موقفهم الثابت، لا يحيدون ولا يتحولون، حتى لو دارت الكرة الأرضية حول نفسها ألف مرة ومرة.

هذا الجيل الذي نتحدث عنه، والذي كان كل من محمد سلطان، والدكتور حسين غباش، من رموزه، هو الذي خلق للإمارات هوية عربية واضحة المعالم والسمات.

ورغم الألم الكبير الذي تركه فقد الراحلين الكبيرين، إلا أن الأمل في أجيال الإمارات التي تسلّمت الراية يظل مشرقاً، خاصة أن رحيلهما تزامن مع إطلاق «مسبار الأمل» إلى كوكب المريخ، وهو المسبار الذي صُنِع بأيدٍ إماراتية، وإدارة إماراتية، وانطلق إلى حيث ستتابع رحلته أيادٍ إماراتية، وتستقبل المعلومات التي سيرسلها، عندما يصل إلى مداره مع احتفال دولة الإمارات بيوبيلها الذهبي، عقول إماراتية، تشجعها وتشد على أياديها قيادة واعية، تدرك أن تواصل الأجيال هو السبيل الوحيد والأفضل للحفاظ على المنجزات، والانطلاق لتحقيق الطموحات، وتؤمن بأن صناعة المستقبل لا تنفصل عن الاعتزاز بالماضي، وأن أبناء الجيل الذي أسس لهذه النهضة، هم أسعد الناس برؤية ما يتحقق على هذه الأرض من إنجازات علمية وحضارية، يثبت أن أرض الإمارات ولّادة، لكل جيل منها سماته وشخصيته، يسلم للجيل الذي يليه فخوراً بما أنجز، واثقاً من أن مسيرة الإنجاز لن تتوقف.

رحم الله الراحلين العزيزين رحمة واسعة، وأجزل لهما المثوبة بقدر ما قدما لوطنهما وأمتهما.

 

 

Email