ما بعد مؤتمر فقه الطوارئ

ت + ت - الحجم الطبيعي

انعقد المؤتمر العالمي الافتراضي «فقه الطوارئ: معالم فقه ما بعد كورونا»، ليثري هذا الجانب المهم، في ظل حاجة المجتمعات الماسة لتأصيلات شرعية سمحة، تنير لها آفاقاً رحبة، تعين الناس على تحقيق مصالح دينهم ودنياهم، وحفظ ضروريات حياتهم، وتحقيق الارتقاء والازدهار الحضاري لأوطانهم، ومواجهة التحديات والأزمات التي تفجؤهم، وفق رؤية فقهية اجتهادية مستنيرة تواكب الواقع بأرقى الآليات والرؤى.

ومما تميز به هذا المؤتمر الفقهي التعاون البنَّاء المثمر والشراكة المتميزة بين رابطة العالم الإسلامي ومجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، ومشاركة العديد من العلماء والخبراء من المؤسسات والمجامع الفقهية، الذين انضووا تحت سقف هذا المؤتمر، لتجتمع فيه عقولهم وتتلاقح أفكارهم وآراؤهم، وتتلاقى اجتهاداتهم لتبني رؤى متكاملة تهدف إلى تحقيق المصالح العليا والمقاصد الكبرى.

كما تميز المؤتمر بمحاوره ومواضيعه المتنوعة التي تمس الحاجة إلى التطرق لها وإثرائها في ظل ما يتعرض له العالم من وباء «كوفيد 19» الذي أثَّر في مختلف مناحي الحياة، ما استدعى من الفقهاء إعمال الاجتهاد العلمي والتجديد الفقهي في هذه الأزمة الاستثنائية، والخروج بأحكام وتوصيات تقتبس من الشرع نوره، ومن الواقع حاجته، ومن المستقبل توقعاته وتطلعاته، وعلى ضوء ذلك قام المؤتمر بدراسة العديد من المسائل والمجالات التي أثرت فيها الجائحة، سواء في جانب العبادات أو المعاملات والعقود أو المعتقدات أو الصحة والآداب الشرعية.

إن أهمية هذا المؤتمر العالمي لا يخفى على أحد، لأنه يجمع العقول المتنوعة والاجتهادات المتعددة تحت سقف واحد، يحرص فيه الجميع على تقديم خبراتهم والاستفادة المتبادلة من اجتهاداتهم ومشاركة التجارب فيما بينهم.

ومن ثمرات هذا المؤتمر التنسيق بين العاملين في المجال الإفتائي في المجتمعات الإسلامية، وتعزيز الاجتهاد الجماعي بينهم، وسد الطريق أمام المتعالمين الذين يبثون في المجتمعات فتاوى فوضوية بعيدة عن روح الشرع وتعاليمه السمحة، وخاصة في أوقات الأزمات والطوارئ، وهو ما يقتضي استثمار ذلك فيما بعد هذا المؤتمر المبارك، ووضع آليات لاستدامة التعاون الإفتائي المشترك في مواجهة الأزمات والطوارئ العالمية، وتكوين لجان لتحويل هذا الأمر إلى واقع عملي يعزز العمل الإفتائي المشترك بما يحقق للدول والمجتمعات الإسلامية الخير والريادة.

ومن ثمرات هذا المؤتمر أيضاً تحقيق التكامل الإيجابي بين الفقه الإسلامي والتخصصات الأخرى سواء في مجال الطب أو الاقتصاد أو غير ذلك، في عالم متقارب متداخل، وهو ما يقتضي تعزيز هذا الجانب فيما بعد مؤتمر فقه الطوارئ، وتكوين لجان وعمل دراسات تأصيلية للتعاطي السليم وتحقيق التعاون المشترك في مناطق التقاطع بين المجال الفقهي والمجالات الأخرى ذات الصلة، وتجسير أي فجوة في هذه المناطق، وهو ما له أبلغ الأثر، ليس فقط على مستوى تزويد الفقيه بتوصيف دقيق للأزمة وأسبابها وأبعادها، بل على مستوى الإلمام الشامل بسائر الأبعاد ذات الصلة بالأزمة التي يعالجها فقهياً، وتكوين رؤية متكاملة وأرضية معرفية واسعة.

ومما نحتاجه كذلك لما بعد مؤتمر فقه الطوارئ استيعاب هذا الموضوع، ووضع معالم دقيقة لتمييز فقه الطوارئ، وعمل دراسات فقهية تاريخية استقصائية لهذا الجانب عبر التاريخ الإسلامي، بتتبع الأزمات والطوارئ الحادثة، وآثارها في مجال الاجتهاد والفتوى لدى العلماء والمجتهدين في مختلف العصور، واستخلاص المعايير والتأصيلات المناسبة للتعاطي مع مثل هذه الظروف الاستثنائية، والتي تزود الفقيه بثروة معرفية غنية وتساعده على أن يبني عليها ويكمل مسيرة التجديد وفق معطيات الشرع الشريف بما يتناسب مع طوارئ عصره.

ومن المجالات المهمة التي ينبغي العناية بها فيما بعد المؤتمر تفعيل دور الجامعات في هذا الباب، من خلال وضع استراتيجية للموضوعات المتعلقة بالجائحة في رسائل الماجستير والدكتوراه التي يقوم بها الطلبة، سواء ما يتعلق بأصول الاستدلال من النصوص والقواعد في الطوارئ، أو من حيث الأحكام الفقهية المتعلقة بالعبادات والمعاملات في أزمة «كورونا» المستجد، والتي تحتاج إلى توسع أكثر يثري المكتبة الإسلامية.

ولا يسعنا في الختام إلا أن نتقدم بأبلغ الشكر للقائمين على المؤتمر والمشاركين فيه ولسائر أصحاب الجهود، متمنين للأمة الإسلامية والبشرية جمعاء انقضاء هذه الجائحة.

 

 

Email