النسر والديك الرومي

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان شاباً في التاسعة عشرة من عمره، مصاباً بالرمد في قريةٍ على ضفاف الفرات شمال الشام، يسمع صراخ الهلع فيعلم أن كتيبة من الجند تبحث عنه لقتله، فيهرب ويقطع النهر سباحة وهو يرى قتل أخيه أمامه، ثم ينتقل هارباً من قريةٍ إلى أخرى على قدميه، بين جُندٍ يلاحقونه وخونةٍ يتربّصون به وعديمي مروءة يريدون جائزة الإمساك به، ليقطع أكثر من ستة آلاف كيلومتر في ست سنوات قبل أن يدخل قرطبة ظافراً ويكتب للتاريخ قصةً تتضاءل أمامها حكايات الإسكندر المقدوني وأساطير جنكيز خان وتلفيقات أرطغرل!

لم يتباكَ عبد الرحمن الداخل ولم يبحث عن شماعات لتحميلها سوء الحال، بل عَلِم حقيقةَ أنّ الحياة ليست عادلة إن قسناها بمنطق الأخذ والعطاء المجرّد، وأنّها مليئة بالصعاب والعثرات ويقف على طرقاتها كل الفاسدين والكارهين ومُثبّطي الهمم وكاسري العزائم، وأنّ الظروف إنْ لم تُلِن قيادها ألانَت قِيادك، والصعاب إنْ لم تكسر عظمها كَسَرَت عظمك!

عندما حاول أبو جعفر المنصور إسقاط مُلْكِه من خلال تعبئة جيش عظيم بقيادة العلاء بن مغيث اليحصبي، لم تكن مع الداخل الذي توزّعت جيوشه لإخماد ثورات الثائرين في أنحاء الأندلس سوى 700 فارس فقط، فقاده ذكاؤه الوقاد ونظرته الاستراتيجية الفذة للابتعاد عن قرطبة حتى لا يخسر كل شيء إن بقي بها ونجح العلاء باقتحامها، فنزل حصن قرمونة وتحصّن به أسابيع طويلة حتى تسرّب اليأس في جيش العلاء بن مغيث، ثم خرج لهم ليلاً بهجوم انتحاري مُحْكَم التخطيط واخترق صفوف الجيش حتى خيمة القيادة وقتل العلاء وكل قوّاده الذين استسلم لمقتلهم كامل الجيش، فقال أبو جعفر المنصور عندما وصلته الأخبار: «الحمد لله الذي جعل بيننا وبين هذا الشيطان بحراً» بل ولقّبه بنفسه: صقر قريش!

كان الداخل شأنه شأن كل ناجح يبحث في كل مشكلة عن الحل، ولم يبحث عن كبش فداء لتحميله الفشل، كان يرى في كل صعب فرصة وفي كل عثرة مجال للنهوض بشكل أفضل، وأنّ النصف الفارغ من الكأس لن يملأه البكاء والتحسّر، فالإخفاق في أمرٍ ما لا يعتبر نهاية العالم ولكنه ببساطة نهاية جدوى محاولة أو صلاحية فكرة لا أكثر، وهو في شقه الثاني طريقة للتعلّم مهما كانت مؤلمة!

النجاح رحلة لا تنتهي وليس وجهة نصل لها ونخلع أحذيتنا ثم «ننخمد»، ولكنه أيضاً قبل ذلك «اختيار» وقرار يتخذه شخص يريد تحقيق شيء مختلف لا تُحقّقه له أساليبه الحالية، ولم يكذب عالم النفس الشهير مارتن كو عندما قال: «إنّ أعظم قوة لدى الإنسان هي قدرته على الاختيار»، فإن بقيت مع القطيع ستنتهي حيث انتهى القطيع، وإن رضيت بالمُعتاد فلن تنال سواه مهما كانت أحلام اليقظة التي تراودك، ولو رضي الداخل بالاختباء والأكل والشرب لمات دون أن يضع بصمته على مسرح الدنيا ولما قامت تلك الحضارة الملهمة في الأندلس، هو التمرّد على المعتاد والإيمان بإمكانية تحقيق الحُلُم ورفض التأطير والقوالب المُعدَّة سَلَفاً، كما قال هال أوربان في كتابه Life’s Greatest Lessons «لا تسمح للعالَم أن يعصرك لتتناسب مع قوالبه الجاهزة»!

ذلك النجاح و«اختياره» يحتاج إعادة توجيه بوصلة عادات الإنسان اليومية، فلأجل شيء لا بد أن تتخلى عن شيء آخر، فمن اعتاد النوم فلن ينجح، ومن رضي بالخمول فلن يخلق فارقاً، فغيّر عاداتك لتتغيّر النتائج التي ستحصل عليها، ونقطة العادات الفردية محورية لأن «اعتمادها» مرة واحدة سيحدّد كامل مسارك فيما بعد، وذلك ما يؤكده المفكر الإنجليزي جون دريدن بقوله: «نحن نُشكِّل عاداتنا، ثم تقوم بتشكيلنا لاحقاً».

الناجحون أمثال الداخل يتفقون على نقطة أخرى وهي عدم الاستسلام في منتصف الطريق، فلا يتسرّب الإحباط لنفوسهم وتذْهب كل جهودهم أدراج الرياح، سبب هذا اليأس كما يذكر دايموند جون في كتابه Rise and Grind هو أن الناس يركّزون كثيراً على القمة التي يريدون الوصول لها عاجلاً غير آجل، وذلك غير ممكن لأنه لا طُرُق مختصرة للقمة، وكان الأجدى لهم أن ينظروا للسفح الذي تركوه والمسافة التي نجحوا بقطعها لإبقاء حماسهم عالياً على الدوام.

ختاماً.. لا بد أن تختار رفقاءك جيداً، فكما يكونون ستكون، وتذكّر الحكمة القديمة التي تقول: «أنت لا تستطيع أن تُحلّق كالنسر إنْ كنتَ مُحاطاً بمجموعة من الدجاج الرومي»!

 

 

Email