التفوّق الرقمي وسبل المستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعقيباً على تدوينة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، على صفحة سموه في موقع «تويتر»، كتب فيها أنّ «المستقبل لِمَنْ يتفوّق رقمياً»، عبّر لنا الخبير الاقتصادي الدولي ووزير المالية الأسبق في الحكومة التونسية عبد الحكيم حمّودة عن رأيه بخصوص هذه التحوّلات، مثمّناً في الوقت ذاته سياسات الدول التي سلكت الطريق السليم لتأمين مستقبل شعوبها.

إذ قال: «إن أغلب اقتصادات العالم مرحلة من التحولات والتغييرات الكبرى، وتخص هذه التحولات المناخ، وذلك من أجل الحد من الاحتباس الحراري والاندماج الاجتماعي من أجل الحدّ من التهميش والفقر والتحولات التكنولوجية من أجل التحكّم ومَسْكِ التكنولوجيا الرقمية».

وقد جاءت جائحة «كورونا» لتزيد من حدّة هذه التحديات ومن التسريع في نسقها وهي جائحة فرضت على دول العالم أجندة جديدة ودفعتها إلى إعادة ترتيب الأولويات على نَحْوٍ يأخذ في الاعتبار ما اقتضته هذه الجائحة من ضرورات وإجراءات لحفظ صحّة المواطن ولضمان الحدّ الأدنى المعيشي له وللمؤسّسات الاقتصادية حتّى يتمكّن الاقتصاد من العودة إلى نسقه العادي بعد تُوَلّي جائحة «كورونا» أدبارها.

وممّا لا شكّ فيه أنّ التحكّم في التكنولوجيا الرّقمية هو «أحد أهمّ المفاتيح لأيّ نجاح مستقبلي وهو الشرط الضروري لتأمين سيادية واستقلال الاقتصاد الوطني للدول وهو البوّابة الرئيسية لكلّ تفوّق مستقبلي».

وإنّ أهمّية التفوّق الرّقمي لا تأتي فقط من كونه يؤشّر على مدى تطوّر وتعميم الخدمات الذكية بل هو المدخل الأساسي لديمومة اقتصادات الدول، وقد جاءت جائحة «كورونا» لتؤكّد حقيقةً لا لُبْسَ فيها وهي أنّ من لا يتحكّم في التكنولوجيا الرقمية ويتفوّق فيها لن يكون بمقدوره مستقبلاً تأمين الحدّ الأدنى من استمرارية العمل والدورة الإنتاجية فضلاً عن تأمين الجانب الخدماتي.

إنّ معيار تقدّم الأمم والشعوب والدول هو في التفوّق الرّقمي وهو ما يفترض ضرورة التحكّم في التكنولوجيا الرّقمية من خلال إيلاء البحوث الأساسية في هذا المجال المكانة المستحقّة، ومن المهمّ في هذا الصدد التأكيد على أنّ الدول التي سارت على هذا الدرب تكون قد سلكت أصوب الطّرق التي تضمن لمجتمعاتها ديمومة الحياة وجودتها ومن حُسْنِ حظّ بعض الدول أن استوعب قادتها هذه الحقيقة ومن سوء حظّ البعض الآخر أن أغفل قادتها ذلك فوضعوا دولهم على طريق الضياع.

إنّ التفوّق الرقمي إذن هو بوّابة الدول والمجتمعات الرئيسية إلى المستقبل ودونه تكون كلّ أبواب هذا المستقبل مؤصدة ولكن شريطة تجذير هذه التكنولوجيا الرقمية في أوطاننا من خلال توطين البحوث الأساسية في المجال وعدم الاكتفاء بنقل التكنولوجيا. وإنّ الدول والمجتمعات التي استوعبت هذه المسّلمة، سلكت طريقها نحو مزيد التحكّم في التكنولوجيا الرقمية وفِي أسبابها ضماناً لهذا التفوّق.

وإذا كان التفوّق الرقمي هو أحد العناوين الرئيسية للتحوّلات والتغييرات الكبرى في العالم، فإنّه من الضروري التأكيد على أنّ مسألتي الحدّ من الاحتباس الحراري من خلال إعادة هيكلة الدورة الاقتصادية على نحو يحترم سلامة المناخ وكذلك الاندماج الاجتماعي من خلال اعتماد سياسات تحدّ من التهميش والفقر، هما النوافذ التي لا محيد عنها مستقبلاً من أجل تهيئة الاقتصاد وتأمين الاستقرار المجتمعي، وهي من الأسس التي تضمن سيادة الدول والمجتمعات قرارها الاقتصادي والسياسي.

إنّ الطريق إلى الخلاص الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يبتدئ من الاعتقاد بأنّ حماية المصالح الوطنية وسيادية القرار الوطني لن تتحقّق في غياب الاستقرار المجتمعي وهو ما يستوجب اتّباع سياسات اقتصادية تضمن كرامة الفرد وتحدّ من حالتي التهميش والفقر، وهو خلاص مستحيل إذا غاب عن الأذهان «قداسة» الرابط الجامع بين كرامة الفرد وحرّيته.

وإذا كان التفوّق الرقمي هو الآلية الرئيسة لضمان مستقبل الأمم والشعوب، فإنّ الخروج من منطق المنافسة والربح السريع وبناء عقد اجتماعي جديد يسعى إلى دعم الاندماج الاجتماعي وحماية المناخ، من خلال تنمية مستدامة هما أساس الرفاه والاستقرار المستقبلي.

إنّ هذه التحوّلات الكبرى هي مؤشّر على أنّ الإنسانية مُقْدمة على عالم حديد يتطلّب الكثير من التعاون والتكامل بين الدول والمجتمعات وهو تعاونٌ لن يكون ندّياً في غياب سيادة الدول على مقدّراتها وثرواتها وقرارها الاقتصادي والسياسي.

إنّ المسألة الوطنية هي في قلب التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المقبلة وإنّ التفوّق الرقمي كما السياسات الاقتصادية والاجتماعية هي مقدّمات ضرورية من أجل تأمين استقلال ومناعة الأوطان لأنّه السبيل الوحيد للحديث عن تعاون مثمر وبنّاء بين الدول.

 

 

Email