ماتريوشكا

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت أول مرة ألمس بيدي فيها دمية «ماتريوشكا» عندما أهداني صديق روسي واحدة قبل أكثر من عشرين عاماً. لم أكن وقتها قد زرت روسيا التي أصبحت جمهورية مستقلة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.

كان الزعيم السوفييتي الثامن ميخائيل غورباتشوف قد أعلن في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر عام 1991 تقديم استقالته من رئاسة الجمهورية، وقال في خطاب وجهه إلى الشعب الروسي عبر التلفزيون إن مكتب رئيس اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية قد تم إلغاؤه، وأعلن تسليم كافة سلطاته الدستورية، بما فيها السلطة على الأسلحة النووية الروسية، إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسن.

لم أكن قد عرفت بعد روسيا العائدة من حضن الثورة البلشفية. كنت أعرف الإمبراطورية الروسية عبر كُتّاب روسيا الكبار أمثال فيودور ديستويفسكي وليو تولستوي.

عرفت فيودور كارمازوف الأب الماجن، وعرفت أبناءه ديمتري الذي اتُّهِم بقتل والده، وإيفان الكاتب المضطرب نفسيا، وأليكسي الراهب المحبوب الطيب، وبافل الابن غير الشرعي القاسي، وتابعت تطورات حياتهم من خلال رائعة ديستويفسكي «الأخوة كارمازوف». رصدت تحولات المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر والعلاقة بين الدولة والكنيسة، واستمتعت بالحوارات المطولة بين أبطال الرواية.

تعرفت على الطبقة الأرستقراطية في المجتمع الروسي من خلال رائعة ليو تولستوي «آنا كارنينا». رأيت كيف يحتدم الصراع بين الخير والشر من خلال شخصيات الرواية؛ آنا وزوجها كارنين وعشيقها فرونسكي، ووقفت على المآلات التي غدا إليها كل واحد منهم.

«لا يمكن أن تكتمل زيارتك لروسيا ما لم تعد معك بدمية ماتريوشكا. قال صديقي الروسي وهو يشرح لي تاريخ الدمية. كان تاريخاً غيرَ متّفَقٍ عليه ككل تاريخ. لفتت نظري فكرتها التي تقوم على التداخل والانقسام.

ماتريوشكا عدة دمى متشابهة الشكل مختلفة الأحجام، الكبير منها يبتلع الصغير، يراوح عددها بين خمس وسبع. على الدمية المصنوعة من خشب الزيزفون أو الصندل صورة امرأة ريفية ترتدي فستاناً واسعاً وطويلاً ظلت النساء الروسيات يرتدينه من منتصف القرن الرابع عشر وحتى القرن العشرين، يُطلَق عليه سرفان.

كلمة ماتريوشكا مشتقة من كلمة ماتريونا التي تعني بالروسية امرأة. تتميز ماتريوشكا بألوانها الزاهية التي تلفت الأنظار، وتدفع كل زائر لروسيا إلى شرائها لإهدائها إلى أصدقائه، أو وضعها في مكان بارز في بيته عند عودته إلى وطنه.

عندما زرت روسيا المرة الأولى لم أبحث عن محال بيع الدمى الروسية، ولكن بحثت عن المدى الذي تمثله هذه الدمى في تركيبة المجتمع الروسي الخارج من حكم شيوعي جثم على صدور أبنائه سبعة عقود، أحاطه خلالها بالغموض والسرية، حتى لم يعد العالم يعرف سوى أسماء الزعماء الذين توالوا على حكمه من لينين وحتى غورباتشوف.

حقبة من الزمن تخللتها أحداث كثيرة وحروب مختلفة، بعضها بارد وبعضها الآخر ساخن، انتهت بانهيار تاريخي فاجأ الجميع، وجعلهم يتساءلون إن كان الاتحاد السوفييتي نمراً من ورق، أم أنه كان نمراً حقيقياً تعرض لمؤامرات داخلية وخارجية أدت إلى هذا السقوط المريع لنظرية الماركسية التي حاول تصديرها للخارج ففشلت في الداخل.

كان المجتمع الروسي منبهراً وهو ينفتح على الغرب الرأسمالي الذي طالما تصدى له زعماؤه وحزبه وحاربوه، وكان افتتاح أول مطعم ماكدونالدز في موسكو يوم الحادي والثلاثين من شهر يناير عام 1990 أول اختبار لتوق الشعب الروسي إلى الحياة التي كان يعيشها الآخرون في الطرف الآخر من العالم.

في اليوم الأول لذلك الافتتاح التاريخي احتشد آلاف الروس، رغم برد الشتاء القارس، أمام باب مطعم الوجبات السريعة الأشهر في العالم. بلغ عدد المنتظرين في الصف للوصول إلى باب المطعم أكثر من 9000 شخص ساعة الذروة! حقق ذلك التدافع رقماً قياسياً في نهاية اليوم الأول بخدمة 30 ألف زبون.

كل هذا من أجل تذوق شطيرة اللحم الأمريكية التي انتشرت في كل أنحاء العالم، وحُرِم منها الشعب السوفييتي نتيجة سياسة الانغلاق المطبقة من قبل النظام الذي كان حاكماً. بدا لي شكل روسيا عندما زرتها المرة الأولى ماتريوشكا متجسدة على أرض الواقع؛ دمى كبيرة تبتلع دمى أصغر منها إلى ما لا نهاية.

كانت أكبر دمية ماتريوشكا مسجَّلة هي تلك التي تم عرضها في اليابان عام 1970 وتتكون من 72 دمية متداخلة. يوم الأربعاء الماضي فاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استفتاء سيمكنه من البقاء في السلطة حتى عام 2036.

هذا يعني أن بوتين البالغ من العمر 67 عاماً، والذي أمضى في الحكم حتى الآن عقدين من الزمن متنقلاً بين رئاسة الدولة ورئاسة الوزارة، مرشح لأن يبقى في السلطة حتى يبلغ 83 عاماً، متفوقاً بذلك على جوزيف ستالين. ستكون هذه أكبر ماتريوشكا في تاريخ روسيا القديم والحديث معاً.

 

 

Email