التعليم عن بُعد ومستقبل الجامعات (2-2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد عرف العالم منذ فترة يسيرة الانتقال إلى عهد الثورة الصناعية الرابعة؛ حيث صارت الكلمة الأولى لتكنولوجيا الاتصال والتقنيات الذكيّة، وانتقل التعليم من النمط الكلاسيكي إلى أنماط أخرى، وفي مقدّمتها التعليم الذكي.

وفي التحوّل الذي تعرفه المؤسسات التعليمية على غرار العالم أجمع، منذُ بدء الإجراءات الاحترازيّة كثيرٌ من الدلالات على أننا - مع كل التحديّات - نستطيع مواصلة المسيرة.

ويمكن أن نسجّل أن استمرار التعليم بكافة متطلباته يُعد إنجازاً يُسجّل لدولة الإمارات العربية المتحدة، كما عوّدتنا القيادة الرشيدة أمام كُل التحدّيات حيث لم ينقطع أي طالب عن التعليم، في الوقت نفسه الذي أفادت فيه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة - يونسكو في تقرير صادر عنها بتاريخ 10 مارس 2020م، بانقطاع 290 مليون طالب وطالبة على مستوى العالم عن الذهاب إلى المدرسة بسبب فيروس «كورونا» المستجد.

وضمن مشروع حماية التعليم، علينا مُضاعفة رفع القدرات التكنولوجية لدى كل منسوبي الجامعات؛ فالطالب الذي تعوّد على دخول المحاضرة الافتراضيّة بمواصفات تكنولوجية، سيجد صعوبة في العودة به إلى القاعة الدراسية في المبنى الجامعي ما لم تتم المسارعة، قبل انجلاء هذه الظروف إلى تفعيل القاعة الدراسية وتغذيتها بأنماط جديدة وأساليب مطوّرة ودعمها بالحضور التكنولوجي.

هذا ما يدعونا إلى التفكير بجديّة في صوغ مواصفات واستراتيجيات أخرى لتحسين العملية التعليمية، لصوغ مساقات جديدة، وخطط وطرائق تعليمية مناسبة لمعاصرة المعطيات التكنولوجية.

إن الظروف الاحترازيّة التي دعت إلى الانتقال إلى التعليم عن بعد بنسبة 100%، اختبار فعليّ لقياس مدى جهوزية المؤسسات فمنذ رفع الشروط الاحترازيّة وقرار المؤسسات التحوّل الكلّي للعمل عن بعد، سجّلت الإحصائيات العالمية من انطلاق العملية وحتى 28 مارس 2020م، أن ما يعادل (80%) في (116) بلداً في العالم يشهد انقطاعاً عن المدارس والجامعات.

وكانت المؤسسات التعليمية في دولة الإمارات العربية المتحدة خارج هذه النسبة بالتأكيد ولم تعرف انقطاع التعليم.

وفي هذا السياق، ينبغي الإشارة إلى أن موضوع الحاجة إلى البنية التقنية والمهارات التكنولوجية العلمية لم يعُد مقتصراً على التخصصات العلمية وحدها؛ ولم تكن الاستجابة مقتصرة على ذلك وحده، ولا نسبة الانتقال؛ فالعلوم الإنسانية أيضاً وسائر التخصصات استجابت في ظرف وجيز. ما يؤكد أن التكنولوجيا وامتلاك ناحية التقنية شأن تعليمي عام، ووسيلة إنسانية مشتركة؛ ولم تكن الجامعات ذات برامج العلوم الإنسانية، بحاجة إلا لأيام قلائل لتنتقل كلياً من التعليم الحضوري إلى التعليم عن بعد، وذلك على مجموع مجالات الخطّة الجامعية المسطرة في كل البرامج الأكاديمية، ولكن القدرات الكامنة والاستعدادات القائمة في الهيئتين الأكاديمية والإدارية، وقبول التحدّي، كلها عوامل أساسية في نجاح هذا التحوّل.

انطلاقاً من مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي: «عالم جديد ينتظرنا يتطلب أدوات مختلفة.. وأولويات جديدة.. ودولتنا ستكون الأكثر استعداداً.. والأسرع نهوضاً بإذن الله»، مؤكداً سموه بهذه المقولة.. أن مستقبل التعليم والصحة والعمل الحكومي والاستثمار والتجارة وبنيتنا الإلكترونية.. كلها ستشهد تطورات جديدة لمواكبة مستقبل مليء بفرص مختلفة، حيث أصدر مجلس الوزراء حزمة من القرارات والتشريعات كان للتعليم نصيب منها حيث أكد أهمية استمرار تطبيق نظام التعليم عن بعد حتى نهاية العام الدراسي الحالي 2019-2020، وذلك في جميع المدارس الحكومية والخاصة ومؤسسات التعليم العالي في الدولة.

وتماشياً مع هذه الرؤية الواعدة والرشيدة نحن نطمح لنؤسس لعالم تعليمي جديد، بمواصفات مختلفة، تكون فيها قدرة الاستجابة والتعاطي مع تقنيات التكنولوجيا هي سيّدة هذا الاختيار، وهي الرهان الأول للنجاح.

وسيتواءَم ذلك وما رسمته منظومة المؤهلات الوطنية، وما خُطّ من أهداف تعليمية تطبيقية جديدة بما يستجيب لسوق العمل. ولعلنا اليوم حققنا بحتميّة الظروف ما كنا نصبو إليه منذ عقود سابقة، وهو التعليم التطبيقي، المهاري، الذي يستهدف بناء القدرات العقلية.

ولعل الخيارات الجديدة التي طرأت في التعليم، والحلول التي قدّمتها وزارة التربية والتعليم لضمان استمرار التعليم في هذه الظروف، والتي اقتضت – مما اقتضته - أن الطلبة يتابعون دروسهم ولو كانوا خارج الدولة؛ لعل هذا الإجراء ضمن إجراءات أخرى عديدة يجعل المرحلة المقبلة للتعليم أكثر استعداداً للتعديل والتطوير، ولا يبقى حضور المبنى الجامعي شرطاً أساسياً للانتساب إلى البرامج أو المؤسسة؛ وفي أقل الحالات قد تجمع الجامعات مستقبلاً بين النظامين: النظام الحضوري (الكلاسيكي) والنظام عن بعد، بنسب تحددها طبيعة البرامج ومحتوى المساقات، والأهداف التعليمية، ولن يكون هذا الإجراء استجابةً للظروف الجديدة وحسب، بقدر ما يكون خضوعاً لسلطة التكنولوجيا والوسائل التقنية، واستجابةً لإمكاناتها، وتماشياً مع معطياتها، وإلا فسيحكم علينا طلبتُنا بأننا في زمن غير زمانهم الذي مكّنهم من التكنولوجيا.

وبقدر ما تعاطينا مع الظروف الجديدة، والإمكانات المتاحة، نكون قد نقلنا التعليم إلى بيئة أكثر فاعلية، وأوفر جدوى، وعلى الرغم من أن التعليم عن بُعد يوصف بأنه تعليم عن بُعد إلا أنني أرى أنه قد ساهم في تقريب الأسرة والطالب والمدرس في بيئة تعليمية افتراضية جديدة مثالية في آن واحد.

 

 

لمتابعة المقال الأول اقرأ:

ـــ التعليم النظامي أم الافتراضي «عن بُعد» (1-2)

Email