الأمن المائي ضرورة ملحة خلال انتشار الأوبئة

ت + ت - الحجم الطبيعي

شكّل تحقيق الأمن المائي، والحد من شحّ المياه، أولوية في مختلف دول العالم، انطلاقاً من الأهمية الاستراتيجية لهذا المورد الحيوي في استمرار حياة الأفراد والمجتمعات، والحفاظ على مواصلة مختلف القطاعات الرئيسة لعملها ونموها، حيث إن أي انقطاع أو تذبذب في وصول المياه، يعد مؤشراً خطراً، يتطلب اتخاذ إجراءات فورية، والبحث عن حلول فاعلة لمواجهة هذه المشكلة، خصوصاً في الظروف الاستثنائية، كالتي نشهدها حالياً من انتشار لوباء فيروس «كورونا» المستجد.

وقد سلطت دراسة نشرت مؤخراً، للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا)، الضوء على التبعات الناتجة عن تفشي فيروس «كورونا» في المنطقة العربية، على قطاع المياه، الذي يعاني بالفعل من شح الموارد، حيث أشار التقرير إلى أنه مع انتشار هذا الوباء، سيزداد الطلب على المياه لغسل اليدين في المنازل، بمقدار 9 إلى 12 لتراً للفرد في اليوم، وذلك من دون احتساب الاحتياجات الأخرى من المياه، لغسيل الثياب والأطعمة والتنظيف، وسيتراوح كذلك معدل زيادة الطلب المنزلي على المياه، بين أربعة وخمسة ملايين متر مكعب يومياً في المنطقة.

هذه الزيادة الكبيرة في الطلب على المياه، بالنسبة لمنطقة يفتقر أكثر من 74 مليون شخص فيها إلى مرافق غسل اليدين، بحسب الدراسة سابقة الذكر، تبين الضرورة الملحة لاستغلال كافة موارد المياه المتاحة بالشكل الأفضل، وتضافر الجهود العلمية والعملية للمساهمة في تلبية تلك الاحتياجات الأساسية.

وتعكس استراتيجية الأمن المائي لدولة الإمارات 2036، الهادفة إلى ضمان استدامة واستمرارية الوصول إلى المياه، خلال الظروف الطبيعية، وظروف الطوارئ القصوى، التوجه السليم، والرؤية بعيدة المدى للقيادة الرشيدة في دولة الإمارات، حيث ركزت هذه الاستراتيجية الاستباقية، في جزء منها، على تعزيز القدرة على مواجهة حالات الطوارئ، وتقليل أثرها في الاقتصاد والمجتمع، عبر توفير 91 لتراً من المياه للفرد يومياً في حالات الطوارئ، و30 لتراً للفرد يوماً لحالات الطوارئ الشديدة، والحفاظ على سعة تخزين لمدة يومين، في ظل الظروف العادية، ما يعادل سعة التخزين لـ 16 يوماً في حالات الطوارئ، ويعادل أيضاً التخزين لمدة 35 – 49 يوماً في حالات الطوارئ القصوى.

وضمن جهود دولة الإمارات الحثيثة، لضمان الأمن المائي، ليس على المستوى المحلي فحسب، بل عالمياً، جاء برنامج الإمارات لبحوث علوم الاستمطار، المبادرة التي أطلقها سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير شؤون الرئاسة، في عام 2015، ويدار من قبل المركز الوطني للأرصاد، ليشكل ركيزة أساسية لتحقيق الأمن المائي، حيث أسس الباحثون الحاصلون على منحة البرنامج، أرضية جديدة ساهمت في تطوير منهجيات علمية وتكنولوجية مبتكرة، يمكن تطبيقها في المناطق المعرضة لشحّ المياه حول العالم، وبدأ العمل المتطور يأخذ مجراه بالفعل، مع إدخال خوارزميات ومفاهيم جديدة، تحسن فهم هطول الأمطار، واستخدام تقنيات النانو لتحسين عمليات التكثف داخل السحب، وتحليل عمليات تشكل البلورات الثلجية في السحب الركامية، وتعديل الخصائص الكهربائية للسحب، ودراسة دور الجسيمات الدقيقة في تحسين هطول الأمطار.

وبالإضافة إلى ذلك، بدأت مشروعات أخرى في التعامل مع اختبار صنع تيارات عمودية، لتكوين السحب الممطرة، وتلقيح السحب باستخدام طائرات بدون طيار، بعد إجراء اختبارات السحب، وتحديد المناسب منها لإجراء عمليات الاستمطار، واعتماد المناهج التجريبية الرقمية المتقدمة في الاستمطار.

ويعكس البرنامج مساعي دولة الإمارات العملية، لإحداث فارق حقيقي بالتعامل مع التحديات الملحة، عبر أخذ زمام المبادرة في البحث العلمي والتكنولوجي، الذي يثري الإمكانات المتاحة بالعديد من التطبيقات المبتكرة. ومع تطوير علوم الاستمطار، من خلال الابتكار والتعاون الدولي الفاعل، أظهرت دولة الإمارات رؤيتها الملهمة والسخية، والتزامها بالاستدامة العالمية، والعزم على تحقيق مستقبل أفضل للبشرية جمعاء.

وقد اضطلع المركز الوطني للأرصاد، بدورٍ أساسي في دعم المشاريع الحاصلة على منحة البرنامج، وذلك من خلال توفير كافة المرافق والإمكانات المتاحة لديه من المستشارين أصحاب الخبرات المتقدمة، إلى جانب التقنيات والوسائل المتطورة من شبكة رادارات ومحطات رصد جوي وطائرات وغيرها، والتي أسهمت بشكل كبير في تسهيل مهام هذه المشاريع، لتحقيق أهدافها المرجوة، وإتاحة المجال لاختبارها، وتطبيقها بشكل عملي داخل دولة الإمارات، هذا، بالإضافة إلى عمليات تلقيح السحب الدورية، التي يجريها المركز، وإنشائه لأول مصنع لإنتاج شعلات تلقيح السحب عالية الجودة في المنطقة، وهو «مصنع الإمارات لتحسين الطقس».

وقد نفذت طائرات المركز خلال الربع الأول من العام الجاري وحده، 95 طلعة جوية لتلقيح السحب، شملت أغلب مناطق الدولة، موظفةً ومستفيدةً خلالها من الأبحاث والحلول المتطورة في مجال الاستمطار، التي قدمها الحاصلون على منحة البرنامج، حيث يستند المركز الوطني للأرصاد في عمليات الاستمطار، التي ينفذها، إلى شبكة رادارات جوية متطورة، ترصد أجواء الدولة على مدار الساعة، يتبعها غرفة عمليات متخصصة ومرتبطة بفريق تنفيذي مكون من طيارين وفنيين قادرين على التجاوب السريع مع معطيات السحب القابلة للاستمطار، وتنفيذ العمليات بدقة وكفاءة عالية.

إن الإنجازات التي حققها المركز والبرنامج من خلال الحاصلين على منحته حتى الآن، وضعت أرضية راسخة لمستقبل علوم الاستمطار، ونحن ننظر بكل تفاؤل للسنوات القادمة، التي سيحرص البرنامج خلالها على استقطاب ودعم أبرز الأبحاث والابتكارات المجدية والقابلة للتطبيق، ومتابعة تنفيذ المشاريع البحثية الحالية، وتطويرها بما يضمن استمرارية تقدم علوم الاستمطار، وتوظيف أحدث التقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة، وغيرها من الأدوات العلمية الحديثة، التي من شأنها النهوض بهذا المجال، الذي يحمل أهمية عالمية كبيرة، ويعد رافداً مهماً، لضمان الأمن المائي في كافة الظروف والأوقات.

* مدير المركز الوطني للأرصاد، رئيس الاتحاد الآسيوي للأرصاد الجوية

Email