الطابور «الخاسر»

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروى أن «الطابور الخامس» مصطلح أطلقه جنرال عسكري إبان الحرب الأهلية الإسبانية، في حقبة الثلاثينيات، حينما قال إن هناك طابوراً خامساً يعمل ضد الحكومة، غير الطوابير الأربعة الموالية، فصارت مثلاً يضرب في أدبيات علوم السياسة والإعلام.

ولم يعد هذا الطابور يضر الحكومات بقدر ما يضر البلدان بأسرها عند بث شائعات تثير الفتنة والإضرابات وترويع الآمنين.

هذا الطابور مثل الفيروس يغير مع مرور الزمن خصائصه. ويحمل معه هدفاً رئيسياً وهو اختراق جهاز المناعة. ولسوء الحظ فإن مناعة الناس متفاوتة. مهما كانت المناعة قوية إلا أنها سرعان ما تضعف أمام لحظة غفلة أو تراخٍ.

ولسوء الحظ فإن هذه الطوابير صارت ترتدي طاقية الإخفاء فلا نكاد نراها. فهي على شكل ذباب وخفافيش إلكترونية تسرح وتمرح في الشبكة العنكبوتية. ويندس هذا الطابور أيضاً في جيوبنا في تطبيقات المحادثة كالواتس أب.

ولذا وقفت لهم الشركة بالمرصاد مؤخراً بعدما خفضت العدد المسموح به لتمرير الرسائل forward إلى عدد شخص واحد وخمسة أشخاص في حالة أخرى، وذلك في مسعى لمحاصرة من يقتاتون على الإشاعات والقيل والقال.

وهناك أيضاً طابور خامس في بيئات الأعمال مثل أولئك الذين يروجون لأحلامهم بإطلاق شائعات عن استقالة وهمية أو صراع مزعوم على غرار فرق تسد. على أمل أن يصفو لهم جو العمل! ومنهم من لا يتورع عن الكذب أو المبالغة أو التشويه شفاهة حتى إذا ما طلب منه تدوين رسالته أسقط في يده وتراجع.

ولذا كان أسرع حل لكشفهم هو تحويل الحديث الخطير الفضفاض إلى كلام مكتوب. وقد تم كشف هذا الطابور بسهولة عندما سأل الباحث في شؤون الاتصال بجامعة كورنيل العريقة جيف هانكوك، مجموعة من المشاركين في دراسته بأن يدونوا بطريقة علمية لمدة أسبوع ما يجري من كذب في محادثاتهم.

فتبين له أن الآخرين قد كذبوا عليهم بنسبة 14 في المئة‏ عبر البريد الإلكتروني، و21 في المئة‏ عبر دردشات الرسائل النصية القصيرة، و27 في المئة عبر النقاش الشفهي، ونحو 37 في المئة عبر المحادثات الهاتفية.

واتضح من هذا أن الكذبة تنخفض كلما ارتفعت رسمية وسيلة التخاطب خصوصاً المكتوبة كالرسائل البريدية. وتعد المحادثات الهاتفية (أو الشفهية) مرتعاً للإشاعات أو الأكاذيب.

بعض الناس تعتقد أن تكرار الإشاعات كفيل بتصديق الناس لها. وربما يتقاطع هؤلاء مع وزير الدعاية السياسية في عهد الزعيم النازي هتلر، الذي كان يردد عبارته الشهيرة «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس!».

غير أن كذب الكبار في عصرنا صار يكشفه الأطفال والمراهقون الذين يمكنهم بسهولة التوصل إلى تلك الأيادي التي عبثت في صورة فوتوغرافية لتجميل الوجه القبيح لحقيقة مرة يحاولون إخفاءها.

صحيح أن الإشاعة صارت تمرق بيننا كما يمرق السهم من الرمية، إلا أنه لحسن الحظ صار نفيها يحدث بالسرعة نفسها بسبب انتشار وسائل الرد السريع. وهذا ما يتطلب بعض المنظمات عن المكابرة والتضليل وإخفاء الحقائق.

أما على الصعيد الفردي فيمكن أن نساهم جميعنا بمحاصرة الطابور الخامس وذلك بوأد الرسالة في مهدها. بعبارة أخرى، لا تنتقد إشاعة لم تكلف نفسك عناء وأدها.

كما أن أكثر ما يفاقم الإشاعة بثنا لها من دون تحقق من مصدرها. فمن لم يملك شجاعة ذكر اسمه أو مصدره لا يستحق أن ندعمه. ومع الأسف الشديد هذا خطأ فادح يرتكبه بعض الصحافيين والإعلاميين حينما يقولون مثلاً: «منقول» ولا يذكرون من هو الناقل خصوصاً حينما يتعلق الأمر بصحة الناس أو حياتهم أو تغيير عاداتهم الحميدة أو طقوسهم الدينية.

وكذلك حينما ينقل رأياً آحادياً وينسى نقل الرأي الآخر. على سبيل المثال ذكر أسباب الحريق من أحد المارة يختلف اختلافاً كلياً عن رأي فني من محقق أو خبير في الإطفاء عن أسباب نشوب الحريق.

كما أن أنصاف المعلومات أو الحقائق هي مرتع آخر للإشاعات والتهويل. ولذا، كان من الحكمة تكملة الصورة للناس حتى نضع النقاط على الحروف، ونوقف محاولات بث الإشاعات والمبالغات.

مشكلة الطابور الخامس أنه قد يكسب على المدى القصير لكنه سرعان ما سينكشف أمره، ويقل احترام الناس له، لأنه قد دمر ما تبقى له من مصداقية. ولذا فهو في الواقع «الطابور الخاسر» لا محالة في البيت والعمل والشارع.

 

 

Email