منهج الصحابة تجاه الوباء

ت + ت - الحجم الطبيعي

في السنة الثامنة عشرة للهجرة النبوية تفاجأ المسلمون بظهور طاعون عَمَواس، وهو وباء ظهر في قرية عَمَواس بفلسطين، ثم تفشَّى في الشام كله، وحمل معه الموت الزؤام، وهو أول طاعون وقع في الإسلام بالشام، وذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وكان عمر قد خرج إلى الشام في هذه السنة، فلما بلغ موضعاً قرب تبوك لقيه أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه بوقوع الوباء في الشام، فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفوا، ثم استشار مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فلم يختلف منهم أحد على ضرورة قطع السفر والرجوع إلى المدينة، حماية للناس ووقاية لهم من شر هذا الوباء، فأخذ عمر بهذا الرأي، لما فيه من حفظ أرواح الناس، وقال مقولته الشهيرة: «نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله»، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف، فروى لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» فحمد الله عمر ثم انصرف.

وفي الشام - موضع الوباء - كان الخطب عظيماً، حيث كان الموت يخطف الناس اختطافاً أفراداً وجماعات، حتى أن أهل البيت الواحد يموتون من آخرهم، ومات في هذا الطاعون خلق كثير لا يحصى من الصحابة وغيرهم، وكتب عمر إلى أمير الشام أبي عبيدة أن يُبعد الناس عن المواطن التي هي مظنة لانتشار الوباء كبرك المياه والأجواء المناخية غير الصحية، وأن يختار لهم الأماكن المرتفعة الفسيحة التي تتمتع بمناخ سليم، كإجراء وقائي وتدبير احترازي تجاه هذه الوباء، فقال له في كتابه: «سلام عليك، أما بعد: فإنك أنزلت الناس أرضاً غَمِقَة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نَزِهَة».

وخطب عمرو بن العاص رضي الله عنه بالناس، فشبَّه الوباء بأعواد الثقاب التي يُشعل بعضها بعضاً، ودعاهم للتفرق والتحصن بالجبال، فخرج الناس وتفرقوا عن بعضهم، وكانت لهذه التدابير الوقائية أبلغ الأثر في التصدي لهذا الوباء وإخماده، بعد أن شكَّل خطراً كبيراً على المجتمع الإسلامي، سواء من جهة كثرة الوفيات، أو من جهة خشية استغلال الأعداء لهذه الكارثة الإنسانية.

لقد كان منهج الصحابة، رضي الله عنهم، في التعامل مع هذا الوباء منهجاً واضحاً، اتَّسم بقوة اليقين والإيمان والتوكل والصبر والحكمة والعقل والأخذ بالأسباب الممكنة، لتلافي هذا الوباء واستئصاله، واتباع التدابير الوقائية لحفظ أرواح الناس وحمايتهم من الوباء.

كما اتسموا بقوة الإرادة والعزيمة والتكاتف وتعاون الآراء، والتواصل المستمر بين القيادات لإيجاد الحلول الممكنة لإنقاذ الناس، وامتدت هذه العناية والمتابعة إلى ما بعد انجلاء الوباء، حيث قدم عمر بنفسه إلى الشام للنظر في أحوال الناس، وتوفير ما يحتاجونه، والتوسيع عليهم، وخطب بالناس واستعرض عليهم ما تم إنجازه في هذه الزيارة، وأنَّ من علم شيئاً ينبغي العمل به أن يُخبره ليعمل به، وطابت قلوب الناس بقدومه، كما كانت لهذه الزيارة أبلغ الأثر في كف الأعداء عن مهاجمة الشام، حيث أزال عمر آثار الوباء، برفع المعنويات، وتوفير الاحتياجات، وترتيب الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية.

لقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم في هذا الموقف أروع الأمثلة على حقيقة التوكل، الذي يملأ القلوب تعلُّقاً وثقة وإيماناً بالله تعالى وحسن الظن به من جهة، ويشحذ الهمم والإرادات والعقول للعمل بالأسباب الممكنة لدفع الضرر من جهة أخرى، وحاولوا فهم طبيعة هذا الوباء، ومسبباته، والاجتهاد في أسباب تلافيه، والعمل بكل ما هو ممكن للتصدي له.

وفي هذا الموقف ينجلي البعد الإنساني لتعاليم الإسلام الراقية والسائرين عليها، حيث وضع الصحابة صحة الإنسان وسلامته موضع الأولوية، لأنهم أهل علم وفقه وحكمة وإنسانية، منطلقين في ذلك من القرآن الكريم والسنة الشريفة وما يمليه عليهم أخلاقهم، وسلك العلماء الراسخون هذا المسلك في كل زمان، حتى صرحوا بأن صون النفوس والأعضاء مقدَّم على العبادات، كما نصَّ على ذلك القرافي في كتابه (الفروق)، فيُقدَّم إنقاذ الغريق والحريق ونحوهما على الصلاة إذا كان فيها أو خارجاً عنها ولو خشي فوات وقتها، فيُفوِّتُها، لصيانة النفس الإنسانية، إلى غير ذلك من الأمثلة الإنسانية الكثيرة.

 

 

Email