فيروس «كورونا» العنكبوتي

ت + ت - الحجم الطبيعي

صحيح أن الفيروس الشاغل للعالم والمهيمن على الرأي العام هذه الأيام هو فيروس «كورونا المستجد» أو «كوفيد – 2019»، إلا أن الفيروسات أنواع وأشكال وأنماط. ورغم أن سكان الكوكب مهمومون بما يمكن أن يصيبهم وأحبابهم جراء «كورونا» في حلته الجديدة، إلا أن الواجب يحتم علينا بعد انقشاع الغمة الآنية أن نفكر في الفيروسات الأخرى، وبينها ما هو أشد فتكاً وأعمق ضرراً من «كورونا» بمراحل.

فإذا كان «كورونا» بنسخه المختلفة – فهو فيروس عودنا على الظهور بين وقت وآخر بمسميات مختلفة - يصيب ويميت، ثم يذهب إلى حال سبيله، فإن غيره من الفيروسات يصيب ويميت ويستوطن ويستقوي ويستشري حتى يتحول إلى أسلوب حياة وعادات وتقاليد.

عادات وتقاليد استخدام منصات التواصل الاجتماعي باتت تستوجب النظر بعين القلق والوجل. فإذا كان البعض قد أدمن الإغراق في عوالم افتراضية حيث بطولات وهمية وانتصارات خيالية، وإذا كان بيننا من صنعوا من أنفسهم قادة رأي ومؤثرين وفاعلين ولكن عبر أخبار كاذبة وآراء ومواقف يسوقونها باعتبارها حقائق، فإن الناتج يكون فيروساً أشد فتكاً من «أنفلونزا الخنازير» و«الطيور» و«إيبولا» و«كورونا» مجتمعة.

اجتماع «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«واتس آب» وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي التي ينشط عليها تقريباً نصف سكان المعمورة (4.4 مليارات شخص، أي نحو 45 في المئة من سكان الأرض يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي) لم يكن على بال المسؤولين عن التعامل مع الفيروس، سواء بالعلاج أو الوقاية أو التوعية أو التخطيط من أجل الاحتواء.

احتواء منصات التواصل الاجتماعي على ملايين التغريدات والتدوينات والفيديوهات التي يتم ضخها على مدار الساعة يجعل التعامل مع الفيروس على الأرض أمام تحديات لا علاقة لها بنوعية الفيروس أو مدى انتشاره أو إجراءات التعامل مع المصابين. وليس خفياً علينا أن نسبة كبيرة جداً جداً من سكان الكوكب باتت تعتمد على منصات التواصل الاجتماعي باعتبارها مصدراً إما وحيداً أو رئيساً في الحصول على المعلومات والأخبار والمتابعات. وليس خفياً أيضاً أن نسبة من يتكبدون عناء التأكد والتيقن مما هو منشور عنكبوتياً، أو حتى التشكك فيه من الأصل هي نسبة قليلة جداً.

والمسألة لم تعد تقف عند حدود المكايدات السياسية حيث دولة أ تنتقم من دولة ب عبر تهويل ما لديها من حالات أو الادعاء بأن لديها إصابات تخفيها. كما أنها تعدت مرحلة الإفتاء بناء على الجهل والشرح والتحليل والتفسير اعتماداً على معلومات خاطئة. الوضع العنكبوتي في ما يختص بـ«كورونا» ينافس «كورونا» في خطورته وجسامته. فالمصابون بالفيروس على الأقل لديهم احتمال الشفاء وإمكانية دخول المستشفيات لتلقي الرعاية، وأما المصابون بفيروس التدوين بناء على مكايدة أو كراهية أو أيديولوجيات سياسية ودينية، وذلك بغية نشر الهلع وبث البلبلة فاحتمالات تعافيهم شحيحة. وأما من يدونون بناء على جهل فهؤلاء قابلون للتعافي، ولكن يحتاجون وقتاً وقبله وقفة ذاتية يعترفون فيها لأنفسهم بأنهم يجهلون ما يفتون فيه.

وتجدر الإشارة إلى أن ما تعج به منصات التواصل الاجتماعي هذه المرة وصل إلى درجة غير مسبوقة من التوحش والتعقيد. وإذا كنا ما زلنا عربياً نعاني القيل والقال، وإعادة تدوير الآراء كأنها حقائق، وإعادة نشر ونسخ ما يرد إلينا من أكاذيب ومعلومات مغلوطة، فإن أماكن أخرى على ظهر الكوكب تعاني مكايدات ومشكلات أكثر تشابكاً وتعقيداً على أثير العنكبوت.

عشرات وربما مئات المجموعات تروج لفكرة مفادها أن الجيل الخامس للاتصالات 5G هو المسؤول عن انتشار الفيروس باعتباره وسيلة لشغل الناس بعيداً عن «الأمراض التي سيتسبب فيها الجيل الخامس من الاتصالات». ووصل الأمر إلى درجة الترويج العنكبوتي لفكرة أن سفينة «دايموند برينسيس» كانت مختبراً لنشر الفيروس، ناهيك عن مئات المواقع والمجموعات التي تعادي اللقاحات والتحصينات والتي تروج لنظرية مؤامرة أبطالها المنظمات الصحية الأممية ودول بعينها باعتبارها المستفيدة من تجارة التحصينات، والفيديوهات التي تروج لأن دواء كذا يقي شرور «كورونا» وأن نوعية بعينها من الأقنعة تضمن عدم نقل الفيروس وغيرها ملايين من الضلالات.

الضلالات العنكبوتية بحر هائج يصعب جداً السيطرة عليه. حتى سنوات قليلة مضت، لم نرَ إلا محاسن التواصل، ولكن اليوم يطل علينا وحش التواصل الاجتماعي ولسان حاله يقول: «إللي حضر العفريت يصرفه».

* كاتبة صحفية

Email