أجندات أجنبية تتغلغل في المنطقة العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مواجهة الاحتلال لا تكون حصراً بالمواجهات العسكرية ضدّ الجيش المحتل، بل أيضاً في إسقاط الأهداف السياسية للمحتل، وفي بناء قوّة ذاتية تنهي عناصر الضعف التي أتاحت للاحتلال أن يحدث أصلاً.

بعد انتهاء حقبة السيطرة العثمانية، ثمّ تجزئة المستعمر الأوروبي للمنطقة العربية، وقيام أوطان ضَعُف فيها الولاء الوطني الواحد وانعدم فيها «مفهوم المواطنة» وساد في معظمها أوضاع انقسامية، فامتزجت التجزئة بين البلدان العربية مع الانقسامات الداخليّة في الأوطان.

اليوم، تدخل الأمّة العربية مرحلة شبيهة بما حصل عقب الحرب العالمية الأولى من دخول عدّة بلدان عربية في مرحلة «الانتداب» الدولي.

وللأسف، يصرّ من زعموا بأنهم «الثوار العرب»، منذ بدء الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدة دول بالمنطقة العربية، فيما يسمى بـ«الربيع العربي» في العام 2011 وإلى الآن، على الحديث فقط عن المسألة الديمقراطية بمعزلٍ كامل عن قضايا أخرى هامّة تتّصل بحاضر الأمَّة العربية وتاريخها المعاصر، كقضية التحرّر الوطني من الاحتلال أو الهيمنة أو التدخلات الأجنبية، أو قضية الصراع العربي/‏‏‏‏الصهيوني، أو حتّى في قضية هويّة الأوطان العربية التي تطمسها الآن هُويات فئوية وطائفية ضيقة تخدم مشاريع الدويلات الطائفية والإثنية.

فحبّذا لو يُدرك هؤلاء «الثوار العرب الجدد» أنّهم بذلك يعيدون فتح أبواب الأوطان العربية للنفوذ الأجنبي ولإعادة حقبة «المستعمرات العربية» التي سقطت من قبل بعد عقودٍ من النضال الوطني امتدّ من المغرب إلى الجزائر، إلى تونس، إلى ليبيا، إلى مصر، إلى عدن والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان.

فتلك كانت ثورات جادّة من أجل استقلال أوطانها، وأدّت إلى تعزيز الهويّة العربية المشتركة، بينما بعض «الثوار الجدد» اعتمدوا على التدخّل الأجنبي بوجهيه الإقليمي والدولي، هذا التدخل الذي ساهم كثيراً في تسعير الأزمات وبالتفكّك الوطني والشعبي الذي يحدث في مجتمعات «الثوار الجدد».

وليست الظروف الداخلية فقط هي عناصر الاختلاف بين هذا البلد وذاك، بل تلعب أيضاً المصالح الدولية والإقليمية دوراً هاماً في تقرير مصير بعض البلدان العربية. إلا أنّه مهما جرى من اختلافٍ بين القوى السياسية المحلية على طبيعة الحكم، فإنّ الحسم مطلوبٌ أولاً لوحدة الشعب، ولحرّية الأرض، ولرفض أي هيمنة أجنبية، ولعدم تحطيم مؤسسات الدولة الواحدة.

لكن إنصافاً للحقيقة، فإنّ كثيراً من معارك التحرّر الوطني في القرن العشرين لم تصل نتائجها إلى بناء مجتمعات حرّة يتحقّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية السليمة في الحكم وفي صنع القرار.

وبسبب ذلك، كان سهلاً حدوث التدخل الإقليمي والدولي في القضايا الداخلية العربية وعودة مشاريع الهيمنة الأجنبية من جديد. ربّما هي سمةٌ مشتركة بين عدّة بلدان عربية أنّ شعوبها نجحت في مقاومة المستعمر والمحتل ثمّ فشلت قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة.

فما يحدث الآن في داخل أوطان من مشرق الأمّة ومغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالة هامّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقودٍ طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد حكومات سياسية.

نجد أيضاً في ملاحظة ما يحدث على أجزاء من الأرض العربية الآن أنّ شعوبها تُهيمن عليها حالاتٍ سلبية من الانقسام على أسس طائفية أو قبلية أو إثنية بدلاً من الصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية والطبقية، والتي هي ظواهر صراعات طبيعية في أيِّ مجتمع حيوي موحّد.

وهذا الانقسام الطائفي والإثني يتمّ التشجيع عليه محلياً وإقليمياً ودولياً، ويسبح في أوحاله إعلاميون وسياسيون وعلماء دين ومفكرون، ولأغراض ومنافع مختلفة.

لقد مضى أكثر من أربعين عاماً من الزمن على محاولات تفكيك هموم الأمَّة العربية وتفكيك شعوبها من أجل تفكيك كياناتها ونزع هُويّتها الثقافية العربية واستبدالها بهُويات أخرى، وعاشت الأمَّة العربية طيلة هذه العقود الماضية جملةً من الأحداث والقضايا يصعب الفصل بينها.

الخطط والمشاريع الأجنبية ليست بمثابّة «قضاء وقدر»، فقد كان هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى في أكثر من مكان وزمان إحباطها ومقاومتها، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية.

وربّما المشكلة الأكبر حالياً هي في وجود «مشاريع» أمريكية وأوروبية وروسية وصينية وإسرائيلية وتركية وإيرانية للتعامل مع متغيّرات المنطقة العربية أو لتوظيف حركة «الشارع العربي» لصالح أجندات غير عربية.

 

 

Email