عن التسوية والوساطة والوسيط

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما نطالع سيرته الذاتية ندرك كيف أن الصراع الصهيوني- العربي بمشتقاته، وفي القلب منها القضية الفلسطينية، عرف تقريباً كل سبل التسوية السلمية الشهيرة في العلاقات الدولية: النصوص القانونية الحقوقية والتنظيمات الساهرة عليها إقليمياً وعالمياً، والمساعي الحميدة والمفاوضة والوساطة والتوفيق، وقوات الطوارئ، والفصل بين القوات متعددة الجنسيات والأسماء.

من المحطات المهمة في هذا الإطار، الدور المزمن للأمم المتحدة عبر أجهزتها ووكالاتها وممثليها مثل الكونت فولك برنادوت، ولجنة التوفيق الدولية (فرنسا وتركيا والولايات المتحدة الأميركية)، والجولات المكوكية للمبعوث جونار يارينج وممثلي الدول الأربع الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا وبريطانية وفرنسا)، ولجنة الحكماء الأفارقة، غداة حرب1967، ومداخلة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر بُعيد حرب أكتوبر 1973، وصولاً إلى مؤتمر مدريد ومباحثات أوسلو عامي 1991 و1993 على التوالي، وأنشطة الرباعية الدولية المكونة من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، منذ العام 2002.

وفي السياق ذاته يمكن الاستطراد للكثير من المشروعات والمبادرات، التي صدرت عن جهات ومستويات دولية لا حصر لها.

تعدد المجتهدين وتنوع الاجتهادات على هذا النحو، يعكس الاهتمام العالمي بتسوية هذا الصراع، ولعل العنصر اللافت المشترك والعابر للمراحل بالخصوص، هو أن إسرائيل حالت دون نجاح معظم هذه المحاولات، وذلك بغض النظر عن المرجعيات التي استندت إليها، فالأصل أن الطرف الثالث الوسيط غالباً ما يبلور أفكاره ومقترحاته للتسوية بناء على مجموعة من المبادئ والثوابت المعتمدة في التعامل مع القضايا الخلافية.

قد تتمثل هذه المبادئ في القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، أو في الأعراف الموروثة، أو حتى في الأسس والأساليب، التي جرت بها معالجة قضايا مشابهة وشكلت سوابق يعتد بها، لكن إسرائيل وحدها دون خلق الله من الدول جعلت من روايتها وأهدافها وقوانينها وسياساتها ومواقفها وتكييفاتها لمفردات الصراع ومداخل حله وتسويته، المرجعية الوحيدة المقبولة لديها.

وكانت المرات النادرة التي استجابت فيها لبعض الأسانيد، مجرد خشبة قفز أو ذريعة مؤقتة استهدفت بها تحقيق أهداف ذاتية يصعب بلوغها من دون هذه الاستجابة.

حدث ذلك مثلاً حين وقعت بروتوكول لوزان (مايو 1949) المقترح من لجنة التوفيق الدولية، وكان ذلك شرطاً لقبول عضويتها في الأمم المتحدة، وما إن بلغت العضوية حتى تنكرت للبروتوكول ورفضت تطبيق بنوده.

أهم من عزوف إسرائيل عن التعاطي مع رؤى المبادرين بمساعيهم الحميدة ووساطتهم أنها من الأصل لم تستمرئ يوماً مسألة وجود هذه الأطراف في غمرة التسوية، فهي لطالما عرضت التفاوض المباشر كونه منهجاً وحيداً لتحري التسوية.

وكان ذلك دوماً مقترناً بالتعامل مع كل طرف عربي على حدة، وفقاً لما عرف بأسلوب المسارات، ولا يخفي على فطن كيف أن منهجية كهذه تسمح لها بمغالبة الطرف المفاوض وحيداً على خلفية موازين القوى المختلة لصالحها، وتسمح لها أيضاً بالتلاعب بمفاوضيها المتفرقين وبث الفتن في ما بينهم، لكن المدهش أنه ما من تعاقد سلمي إسرائيلي مع طرف عربي إلا جاء بعد مداخلة لطرف ثالث لا شريك له هو الولايات المتحدة! التسويات الإسرائيلية مع كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير مثلاً، هي بعض حصاد هذه المداخلة ونماذجها الأشهر.

وتقديرنا أن هذا التفرد بدور الوساطة أمريكياً والتفرد بمقبوليته إسرائيلياً يعني أن الولايات المتحدة تكاد ألا تكون مجرد طرف ثالث في غمرة الصراع بين إسرائيل والعرب، كذلك نحسب أن الثقة الإسرائيلية في هذا الوسيط بالتحديد دون سائر الأطراف الثالثة، تتأتى من حقيقة أنه لا يمثل عندها طرفاً ثالثاً، وإنما كونه حليفاً يتبنى رؤاها، ويسعى لتمريرها بنعومة أو بخشونة، سيان في النتيجة وتحقيق المراد.

هذه الظاهرة الاستثنائية تستدعي الاعتقاد بأن الوسيط أو الطرف الثالث الذي يصلح لإنجاز التسوية الفلسطينية، هو ذلك الذي يملك طاقة تحييد الرعاية الأمريكية الخاصة لإسرائيل، علاوة على وضع حد للانفراد الأمريكي بملف التسوية ذاته، وفرض عقوبات عينية ومعنوية على الشريك الإسرائيلي المتمرد، ولأن هذه المحددات الأساسية ما زالت بظهر الغيب، فمن المرجح أن تبقى هذه التسوية بدورها مطلباً بعيد المنال.

Email