ورحل مبارك

ت + ت - الحجم الطبيعي

سيتوقف التاريخ طويلاً أمام الرئيس المصري الأسبق الراحل محمد حسني مبارك.

وأغلب الظن أن حيرة ستكتنفه، وجدلاً سيعتري طريق التوثيق وأسلوب التعريف.

ولحسن الحظ أن التاريخ لا يصبح تاريخاً إلا بعد مرور عقود وربما قرون، وذلك اتقاء لشرور الاندفاع الشعبي أو الأدرينالين الثوري أو حتى الانحياز الدولي.

الرئيس الأسبق حكم مصر ثلاثة عقود كاملة، ارتبط خلالها بعلاقات دولية وإقليمية وعربية، اهتزت حيناً وتجذرت حيناً لكنها ظلت محتفظة بأطر ثابتة وقناعات واضحة واتساقات منطقية دائماً.

ولعل أبرز وأهم هذه الأطر البعد العربي القومي الذي اعتبره الرئيس الراحل أولوية. موقفه الفوري غزو العراق للكويت كان خير مثال.

فقد دعا لقمة عربية طارئة تنعقد خلال 24 ساعة للوصول إلى حل في إطار عربي. كلماته حينئذ قالت الكثير. (الصورة سوداء ومخيفة، وفي حال عدم تدارك الموقف ستصبح الأمة العربية جثة هامدة ومن دون كيان).

كان أمل مبارك أن تصل الدول العربية (لحل في الإطار العربي الذي هو أكرم للأمة العربية). ومن منا لا يتذكر المشهد حينئذ ودول تؤيد الغزو، وأخرى تعارضه، وثالثة تنتظر ثبوت الرؤية حتى تتخذ موقفاً؟!

ومعروف أن المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه- كان في ضيافة الرئيس الراحل في مدينة الإسكندرية حين علما بأمر الغزو بعد دقائق من حدوثه. وبدا تطابق رؤية الدولتين والزعيمين في التعامل مع هذه الكارثة العربية /‏‏‏ العربية عربياً.

تباحث الزعيمان سريعاً، وسافر الشيخ زايد – طيب الله ثراه- إلى جدة للتشاور مع العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز أملاً في احتواء الموقف. وكان من أول من استجاب من القادة العرب للقمة العربية التي دعا إليها مبارك، وهي القمة التي تم التوافق فيها على إرسال قوات عربية إلى السعودية بغية تحرير الكويت.

لم تكن كارثة غزو الكويت نقطة الالتقاء الوحيدة، فقد كانت – ومازالت- الرؤى المصرية الإماراتية متشابهة متكاملة.

وسر تكاملها يكمن في واقعيتها ومنطقها وعروبتها وتأنيها، والنأي بنفسها بعيداً عن الحنجورية أوالاندفاع أو الانجراف في أروقة خبيثة.

السنوات التسع الماضية، وتحديداً منذ تفجر أحداث 2011 التي تسمى بـ (الربيع العربي) غيرت الكثير من سبل التقييم والتعبير الشعبي.

وقد لاقى ملف السياسة العربية والخارجية للرئيس الراحل الكثير من الاستحسان والإعجاب، ولعل رصد ردود فعل المصريين على وفاة مبارك يقول الكثير عن طبيعتنا وطبائعنا.

ورغم السنوات العاصفة الهادرة التي ألمت بالمصريين بعد أحداث يناير 2011، إلا أن الموقفين الشعبي والرسمي يقولان الكثير.

رسمياً، حظي الرجل بجنازة عسكرية تليق بتاريخه العسكري. وشعبياً، فإن القاعدة الشعبية العريضة التي اعترضت بالأمس هي نفسها التي طلبت له الرحمة ودعت له بالمغفرة.

وبالمناسبة فإن الدعاء بالرحمة والمغفرة لدى المصريين، وبخاصة من اختلفوا مع نهج الرئيس الراحل خليط من طبيعة بشرية مع مرور عدد من السنوات تكفي لمعاودة التفكير بهدوء نسبي.

القاعدة الشعبية في الشارع تعرضت لدروس قاسية وتجارب حاسمة عدة في فترة قصيرة، وما زالت تستخلص العبر وتستنتج النتائج.

فالشخصيات التاريخية التي يتم تصويرها باعتبارها شراً مطلقاً ربما لا تكون كذلك.

والأحداث المتواترة التي يتم تصنيفها وكأنها أفضل ما جرى في البلاد ربما لا تكون كذلك أيضاً.

ويكفي أن أعداداً متزايدة من المصريين مثلاً لم يعودوا ينظرون إلى عصر الملكية باعتباره شراً مطلقاً، بعد ما كان كذلك على مدار عقود طويلة.

يعلم المصريون أنه لم يحن بعد أوان كتابة ما جرى وتقييمه في كتب التاريخ، لكنهم يعلمون أن رئيسهم السابق المتنحي عن الحكم قد رحل، فترحموا عليه.

Email