عادت الحيوية من جديد لنتائج المفاوضات الأمريكية مع «حركة طالبان» بعدما تعثرت دعوة الرئيس ترامب لقيادات من «طالبان» للحضور إلى «كامب ديفيد» في شهر سبتمبر الماضي بسبب اعتراضات من أعضاء بارزين في الكونغرس ومن أوساط فاعلة في أجهزة المخابرات و«البنتاغون»، لكن ترامب قال حينها إنّ السبب هو مقتل جنود أمريكيين عشية الموعد الذي كان مقرراً لحضور وفد «طالبان» لواشنطن!
وهو الأمر المستمر طيلة الأشهر الماضية، حيث قتلت مجموعات من «طالبان» أمريكيين عدة، وأسقطت طائرة كان على متنها عناصر عسكرية أمريكية مهمة، ورغم ذلك، حصل التوافق بين الطرفين منذ أيام قليلة على تجديد الأمل بإمكانية توقيع اتفاق بعد «تخفيض لدرجة العنف» لمدة أسبوع!
وما سبق أن أعلنته حركة «طالبان» الأفغانية في العام الماضي من مسودّة لاتفاق يهدف إلى إنهاء الحرب في أفغانستان، تمّ إعدادها أثناء محادثات أجرتها الحركة مع المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشأن الأفغاني زالماي خليل زاد، هو مفصل مهمّ في سياق الحرب الأمريكية في أفغانستان التي بدأت قبل 19 سنة.
فما نصّت عليه مسودّة الاتفاق يعني قبولاً أمريكياً بتسليم السلطة مستقبلاً لحركة «طالبان» وبسحب «قوات الناتو» من أفغانستان خلال 18 شهراً مقابل تعهّد «طالبان» بعدم السماح لأنشطة «القاعدة» و«داعش»، وأيضاً للمسلّحين الانفصاليين، الناشطين في جنوب غرب أفغانستان، من استخدام هذه المنطقة كمنطلق لهم في عملياتهم ضدّ باكستان المجاورة.
ولوحظ في مفاوضات العام الماضي عدم مشاركة حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني الذي عبّر مرات عدة في السابق عن امتعاضه من الموقف الأمريكي، ومن عدم مشاركته في المفاوضات، ولغياب التنسيق مع حكومته، ممّا جعل واشنطن تحرص أخيراً على اطلاع الرئيس الأفغاني مسبقاً عن الممكن إعلانه كاتفاق مع «طالبان»، والتي هي حتى الآن لا تعترف بكل الوضع الدستوري والسياسي الذي جرى في أفغانستان بعد الغزو الأمريكي.
لقد دعم الشعب الأمريكي بمعظمه الحرب في أفغانستان في العام 2001 لأنّها كانت أشبه بحال انتقام لما حدث في يوم 11 سبتمبر بسبب وجود أسامة بن لادن وقيادات تنظيم «القاعدة» فيها، لكن رغم ذلك، فإنّ تداعيات حرب أفغانستان جعلتها تُشبه إلى حدٍّ كبير الحرب الأمريكية على فيتنام في حقبة الستّينيات من القرن الماضي، والتي سبّبت خسائر كبيرة للولايات المتحدة، وانتهت بمفاوضات في باريس أدّت إلى الانسحاب الأمريكي وتسليم الحكم إلى من كانوا يحاربون أمريكا من ثوّار فيتنام الشمالية «الفيتكونغ»، وإلى التخلّي عن حكومة فيتنام الجنوبية المدعومة من واشنطن.
وهذه هي الحرب الثانية، بعد العراق، التي «تخسرها» الولايات المتحدة في هذا القرن الجديد، لكن دون أن يؤثّر ذلك على القوّة العسكرية الأمريكية المنتشرة في العالم. فما زالت الميزانية العسكرية الأمريكية هي الأضخم بنسب كبيرة مقارنة مع ميزانيات الدفاع لدى القوى الكبرى الأخرى.
ولم تكن خسارة أمريكا في فيتنام مبرّراً لخفض الإنفاق الأمريكي على المؤسّسة العسكرية أو سبباً لانسحاب أمريكا من الأزمات العالمية أو لعدم خوض حروبٍ جديدة. وقد رصدت إدارة ترامب أكثر من 700 مليار دولار لصالح ميزانية «البنتاغون»، وهو أكبر مبلغ يُخصّص لهذه المؤسّسة منذ تأسيسها.
ترامب بحاجة إلى «نصر سياسي» خارجي يوظّفه في انتخابات نوفمبر المقبلة، خاصة بعد أزماته المتعددة مع حلفاء الولايات المتحدة، وبعد خيبة الأمل لديه من إمكانية توقيع اتفاق سلام مع كوريا الشمالية خلال هذا العام. وسيصرّ الرئيس الأمريكي، بحكم صلاحياته، على الوصول لاتفاق مع «طالبان» رغم بعض المعارضات الداخلية الأمريكية التي لا تجد مصلحة أمريكية الآن بتخفيض كبير لعدد القوات الأمريكية.
أفلا يلفت الانتباه ما قام به ترامب من سياسة خارجية أثرت سلباً على علاقات واشنطن مع حلفاء لها، بينما هو يسعى للتقارب مع خصومها كحالة كوريا الشمالية، وكحالة «حركة طالبان»، التي لم توقف عملياتها العسكرية ضد الأمريكيين طيلة العقدين الماضيين.
حركة «طالبان» تدرك تماماً الآن المزيج الحاصل في الولايات المتحدة القائم على الجمع بين المصلحة السياسية الانتخابية لترامب في الاتفاق معها وبين قناعة عموم الأمريكيين بوصول الحرب في أفغانستان إلى أفق مسدود، ممّا يُعزّز الموقف التفاوضي للحركة ويجعلها تراهن على النموذج الفيتنامي الذي كان يُفاوض الأمريكيين في باريس بينما المعارك مستمرة في فيتنام إلى حين صدور قرار سحب القوات الأمريكية والتخلي عن حلفائها في فيتنام الجنوبية!
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن