المحتوى الرديء

ت + ت - الحجم الطبيعي

سبحان مغير الأحوال. وما بين الحال والحال قائمة طويلة من أحداث ومجريات، منها ما قلب وضع الكوكب رأساً على عقب، ومنها ما فتت دولاً وقوى أخرى، ومنها ما أدى إلى هبوب رياح عاتية وإحداث تغيّرات حامية.

وطيس حام تدور دوائره هذه الآونة هناك على الجانب الآخر من الأرض.

مؤسس «فيسبوك» ورئيسه التنفيذي مارك زوكربرغ تحدث أثناء مشاركته في مؤتمر ميونيخ الأمني عن ضرورة سن المزيد من القوانين للسيطرة على «المحتوى المؤذي» الذي يُنشَر على صفحات الشبكة العنكبوتية.

«المحتوى المؤذي» حيّرنا معه. وما كانت دول ومؤسسات وأفراد تنعته بـ«شديد الأذى» «عميق الضرر» قبل نحو تسع سنوات، كانت دول أخرى تعتبره حرية تعبير ودمقرطة معلومات وتمكين أفراد.

واليوم، وبعد مرور هذه السنوات التسع العجاف على المنطقة العربية، يتحول مدافعو الأمس عن الحرية والإبداع والتعبير دون حدود وبلا قيود إلى مطالبين مشددين على ضرورة الضبط والربط، وتشديد القوانين، وتعميق السيطرة على ما يرد من «محتوى مؤذٍ» على الشبكة العنكبوتية، وعلى رأسها «فيسبوك».

الرجل نفسه الملقب بـ«عبقري الجيل» زوكربرغ وقف أمام اجتماع مجموعة الدول الثماني المجتمعين في باريس في عام 2011 مطالباً العالم بالتوقف عن محاولات تنظيم شبكة الإنترنت، ومناشداً الجميع ترك هذا العالم الافتراضي الذي ازدهر دون تدخل الحكومات.

أخبرهم زوكربرغ أن أي محاولة للتنظيم مآلها الفشل، وأن طبيعة الإنترنت ومنصاتها قائمة على الحرية دون ضابط أو رابط. كل المطلوب حينئذ كان: مزيد من الاستثمار في تكنولوجيا عالية السرعة، وتوفير الاتصال العنكبوتي المفتوح لكل إنسان على وجه الأرض.

قادة الدول الثماني الكبرى بدورهم ثمنوا دور الإنترنت في دعم النمو الاقتصادي والحرية الشخصية، مع إبداء درجات متفاوتة لكن قليلة من الحذر تجاه ما قد تتسبب فيه المنصات المفتوحة من تهديد للخصوصية والملكية الفردية.

وقتها لم يطرأ على بال الكبار ـــ على الأقل علناً ـــ أن بعد سنوات قليلة ستنقلب الآية وينحرف التوجه ليقف الرجل نفسه في تجمعات تضم الدول ذاتها ليشدد الجميع على ضرورة وأهمية وحتمية الضبط والسيطرة والتنظيم بمزيد من القوانين، وذلك درءاً لخطورة «المحتوى المؤذي».

وبعد سنوات من التأكيد على أن «فيسبوك» وغيرها منصة إعلامية تواصلية وليست سياسية، وأن عقيدة «فيسبوك» الحرية للجميع دون ترجيح كفة تيار على آخر أو نصرة جماعة على أخرى، إذ بتأكيدات لا تقل ضراوة على أن الفضاء العنكبوتي في حاجة ماسة إلى الضبط.

ومن فضيحة تداول معلومات ما يزيد على 50 مليون مستخدم لفيسبوك لصالح الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأثر ذلك الاستخدام على نتيجة الانتخابات، لا من باب التزوير ولكن من نافذة التأثير على توجه الرأي العام، إلى أزمة «بريكست» والتصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي النتيجة التي يرجح أن يكون لـ«فيسبوك» ومعلومات المستخدمين الشخصية أكبر الأثر عليها، إلى أبواب الإنترنت المفتوحة على مصاريعها لتنشئ «داعش» صفحات استقطابية وأخرى تجنيدية وثالثة لبروبغاندا القتل والترهيب، استيقظ الجانب الآخر من الأرض على آثار لم تكن في الحسبان وقت تم تقديس الحريات المطلقة واتباع مبدأ عدم المساس بإمكانات الدمقرطة وإعطاء الجميع صوتاً ومنصة يفعل بها ما يحلو له.

وكان يحلو لكثيرين وقت بدء هبوب رياح الربيع العربي المنقلب شتاءً قارساً أن يتم وصم من يحذر من آثار مواقع التواصل الاجتماعي ومغبة التدوين والتغريد غير معروف الهوية أو المصدر بنعوت الخوف والجبن والديكتاتورية والقمع والقهر إلى آخر القائمة المعروفة.

هيمنت ميليشيات إلكترونية وكتائب عنكبوتية وحسابات وهمية على جانب معتبر من أثير «فيسبوك» و«تويتر» لتؤثر على المواطنين في مصر ودول أخرى لتبدو جماعة كـ«الإخوان المسلمين» وغيرها سلمية وسطية مقهورة تستحق الدعم والتأييد.

ووقفت هذه الجماعات على جبهة واحدة مخاطبة جمعيات حقوقية ودولاً غربية تميل لأسباب عدة إلى ترجيح كفة الإخوان، وذلك أملاً في إسقاط مصر وإضعاف الخليج وإحكام السيطرة على دول أخرى في شمال أفريقيا.

وكلما تأوهنا من أثر هذه الميليشيات أو نبهنا إلى خطورة ترك الساحة العنكبوتية سداح مداح، قيل لنا إن خوفنا من الديمقراطية هو السبب.

اليوم، هل يمكن القول إن مطالبة زوكربرغ بفرض المزيد من القوانين لمواجهة «المحتوى المؤذي» هو خوف من الديمقراطية.

Email