جنون العظمة الذي يهوي بصاحبه

ت + ت - الحجم الطبيعي

دخل الرئيس التركي «أردوغان» مؤتمر برلين، طرفاً في الصراع الليبي، الذي هبط إليه من خارجه بميليشيات من مرتزقة داعش التي يدربها ويأويها ويزعم أنها ليست أكثر من مستشارين عسكريين، والطائرات المسيرة، لمنع سقوط حكومة السراج الإخوانية من جهة، وللبحث عن قاعدة بحرية تؤمن له بترول ليبيا وغاز البحر الأبيض المتوسط من جهة ثانية.

وتجلب تمويلاً لصفقاته العسكرية مع السراج. لكنه لم يشأ أن يكتفي بقبول المشاركة، الذي حصل عليه من 16 دولة ومنظمة دولية وإقليمية مشاركة في المؤتمر، بعد التهديدات التي أطلقها للدول الأوروبية بفتح الأبواب على مصراعيها لهجرة اللاجئين إليها.

ليس فقط لأنه يصطدم بمخرجات مؤتمر برلين الأخرى التي تشتت له خططه في النفوذ والهيمنة باعتراف المؤتمر بالدور الهام لدول الجوار في عملية تحقيق الاستقرار في ليبيا.

بل كذلك تعوق سياسته المرتبكة والمندفعة للهروب من مشاكله الداخلية، بمغامراته العسكرية التي لا تتوقف إن في سوريا أو في ليبيا، وحتى في الداخل التركي، بإعادته للصراع المسلح مع حزب العمال الكردستاني واندفاعه لتدمير مدن كردية بالكامل.

هذا فضلاً عن التدهور السريع في أوضاع الاقتصاد التركي الذي تدعمه قطر مالياً، حتى لا ينهار تماماً وتدني الأحوال المعيشية للمواطنين، والانشقاقات التي أضعفت حزب العدالة والتنمية الحاكم.

وازدياد حالات السخط الشعبي على أجواء البطش التي تطول المعارضين وتفتح أبواب السجون لمئات من العسكريين والقضاة والصحفيين والكتاب وأساتذة الجامعات، بعد محاولة الانقلاب التي جرت على حكمه قبل نحو ثلاثة أعوام والتي اتخذ منها ذريعة لتعديل الدستور وتحويل تركيا من جمهورية برلمانية إلى جمهورية رئاسية يحتكر فيها كل السلطات.

وكانت مقررات برلين قد أوصت بتثبيت هدنة لوقف إطلاق النار دون إشراف دولي لمتابعتها، ومنع التدخل في الشؤون الليبية.

وحظر منع إرسال الأسلحة إلى الطرفين المتحاربين، في إصرار دولي لم يعد مبرراً على المساواة بين ميليشيات إرهابية يقودها السراج لمنع حكومته من السقوط، وبين الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر الذي بات يحظى بتأييد قطاعات واسعة من الشعب الليبي.

ولا ينطوي ذلك الإصرار سوى على هدف وحيد، هو فرض جماعة الإخوان الإرهابية طرفاً في معادلات الحكم في دول المنطقة، حتى لوكان ذلك ضد إرادة شعوبها.

ولمنع وقف تدفق وضخ البترول الليبي بأي ثمن، حتى لوكان الثمن على حساب الشعب الليبي وأمنه واستقرار دولته. هذا بالإضافة إلى العمل على جذب الفريقين الليبيين المتحاربين للحوار السياسي للتوصل لحلول للأزمة من كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية.

وهي نفس النقاط التي أكد عليها وزراء خارجية دول الجوار الليبي في أعقاب اجتماعهم في الجزائر، الذي كان أردوغان يزورها بعد فشل زيارته لتونس بحثاً عن دعم حدودي بري وجوي وبحري للقوات التي يرغب في إرسالها لميليشيات السراج طبقاً للاتفاق العسكري الذي وقعه معه، للحيلولة دون تحرير طرابلس على أيدي الجيش الوطني الليبي بعدما أضحى على مشارف العاصمة طرابلس.


وما كاد الحبر الذي صيغ به بيان برلين يجف حتى أعلن «أردوغان» في مؤتمر صحفي جمعه مع راعية مؤتمر برلين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في اسطنبول أن تركيا لن تترك فايز السراج رئيس حكومة الوفاق وحده، وأنها عازمة على دعمه!

وفي خطاب له أمام أعضاء حزبه في البرلمان، قال أردوغان: لا أحد ينتظر منا إشاحة وجهنا عن إخوتنا الليبيين الذين طلبوا منا يد العون. إن نصرة أحفاد أجدادنا في شمال أفريقيا تأتي على رأس مهامنا.

هوس بالسلطة المطلقة التي تمجد الذات وتقهر الخصوم وتشيع الذعر وتنشر الفساد، وتضعف مؤسسات الدولة سعياً لمشروع وهمي لا أرجل له. يقف السلطان العثماني منتشياً على أطلال أزمات شعبه، ليعلن أنه ذاهب إلى ليبيا ليستعيد إرث أجداده البائس.

إنه جنون العظمة الذي أسقط آلهة الأساطير الإغريقية وأبطال التراجيديا اليونانية من عليائهم، لكن الفرق بينهم وبينه، أن جنونهم كان فطرياً يتحدى مظالم طائلة لخدمة البشر وسعادتهم، أما جنونه فهو عرض لمرض تمجيد الذات والافتتان بها الذي يهوي بمرضاه صرعى، من قمة الهرم إلى أسفله.

رئيسة تحرير جريدة «الأهالي» المصرية*
 

Email