رياح يناير

ت + ت - الحجم الطبيعي

جرى عرف السنوات التسع الماضية أن يهل علينا شهر يناير من كل عام حاملاً معه تذكيرًا برياح هبت على المنطقة لتكشف وجوهًا وتحجب أخرى وتقلب المنطقة العربية رأسًا على عقب.

ففي مثل هذه الأيام من كل عام يغمض العالم العربي عينيه ويتذكر ما جرى وقت هبوب رياح مايسمى بـ«الربيع العربي». البعض يتذكرها وتمر شريط ذكرياتها وما تبقى من حاضرها أمام عينيه فيستمر في استخلاص العبر وفهم النتائج واستشراف المستقبل في ضوء ما جرى، مع كثير من الدروس المستفادة من قبل جميع الأطراف.

البعض الآخر يستحضر ما جرى ويبكي على لبن السلطة المسكوب، إذ راودته أحلام بتمكين الجماعات الإرهابية من حكم بلاد هنا وتفتيت وتدمير بلاد هناك سواء.

هذا الفريق الثاني فيه مواطنون عرب وقعوا ضحايا لأفكار مريضة بثتها جماعات إرهابية وسكتت عليها أنظمة حكم سابقة ظنًا منها إنها ستبقى دائماً مسيطرة وإلى الأبد مهيمنة، فأساءت لعبة توازن القوى أو فرق تسد.

وفي الفريق نفسه رؤوس هذه الجماعات وعقولها المدبرة التي تجد نفسها هذه الآونة في أزمة وجودية رهيبة ومأساة مستقبلية شديدة.

مستقبل المنطقة العربية يجري تحديده ورسمه ووضع الرتوش شبه النهائية عليه هذه الآونة. صحيح أن «الآونة» هنا قد تمتد بضع سنوات، لكننا نتحدث عن مستقبل «أمة» مرت في السنوات التسع الماضية بتغيرات وتقلبات وانكشافات ومؤامرات لم تمر بها بهذا الشكل المكثف منذ تحررت آخر دولة عربية من براثن الاستعمار!

الاستعمار الفكري الذي يهيأ للبعض أنه وارد الخارج فقط أثبت أنه يمكن أن يكون وارد الداخل أيضًا. هذا أبرز اكتشافات ما جرى في يناير قبل تسع سنوات.

هذا النوع من الاستعمار الذي تٌرِك يرتع في بلادنا عقودًا طويلة، تارة باسم الدين وأخرى تحت راية التعددية وثالثة باعتباره خصوصية ثقافية اتضح أنه مناقض للدين وضار به، ولا يؤمن بالتعددية حال وصوله إلى رأس السلطة، كما أنه لا ملة ولا عادات وتقاليد ولا يحزنون، ومن ثم فلا علاقة بينه وبين الخصوصية من قريب أو بعيد.

وبعد سنوات تسع من إعادة تدوير سؤال: هل كانت أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي» ثورة أم مؤامرة أم ثورة متآمرة أو مؤامرة ثائرة، يمكن القول إن توصيف ما جرى بالضبط ليس بأهمية الاستفادة مما جرى.

والاستفادة المقصودة ليست تضييقًا للمجال العام لمنع تكرار ما جرى، أو ترويع الرأي العام لضمان الاصطفاف الوطني، أو إحكام سلطة الأمن العام لمنع تطاير شرارات الفكر المتطرف والمعطوب.

المقصود هو الالتفات إلى طبيعة العصر الذي نعيشه، وحقيقة الوضع الذي نمر به أو بالأحرى الذي يمر بنا، مع الوصول إلى قناعة أننا جزء من العالم وأن الانفصال عنه ليس ممكناً. الثورة الرقمية ودمقرطة المعلومات وفتح فضاءات التعبير والبحث والنقاش على مصاريعها واقع لا محالة.

وكما أن نشر الفكر المريض وبث الفرقة وزرع الاستقطاب ممكن بفعل هذه الفضاءات المفتوحة، فإن نشر الفكر المتنور وبث الإيجابية وإتاحة الفرص وزرع الانتماء أيضًا ممكن عبر الفضاءات نفسها.

وبعد تسع سنوات من التجارب المتواترة والأوضاع المتفجرة والدروس المستفادة والانكشافات المؤكدة، يمكن القول إن الفرصة لم تكن يومًا مواتية كما هي عليه الآن. فالسنوات الماضية كفيلة بتهدئة المشاعر وإتاحة الفرصة لاسترجاع الأحداث والخروج بنتائج عملية تدفع بمن يشاء من العالم العربي للمضي قدمًا في القرن الـ21.

صحيح أن المنطقة تعاني بحكم موقعها الجغرافي وتركيباتها الجيوسياسية والنفطية والغازية بالغة التعقيد، وصحيح أن موازين القوى في المنطقة متشابكة تشابكًا مَرضياً، وصحيح أن محاولات التدخل المباشر وغير المباشر في شؤوننا قائمة، لكننا أيضًا بتنا أكثر نضجًا وأعمق معرفة وأوفر قدرة على اتخاذ قراراتنا المصيرية في ضوء الواقع ذي الوجه المنكشف تمامًا. ولحسن الحظ أن دولاً عدة في المنطقة اتخذت بالفعل هذه الخطوات، كل حسب أولوياتها وخصوصية أوضاعها، ونذكر منها على سبيل المثال: مصر والإمارات والسعودية.

هذه الأيام نتذكر ما جرى في يناير عام 2011، ونذكر أنفسنا بأننا لم نعد نمتلك الوقت لنغرق في مزيد من الخرافة، أو ننجرف وراء بكاء على أطلال لن تعود. تسع سنوات كفيلة بإعادتنا إلى أرض الواقع.

 

 

Email