انتفاضة العراق وإعادة التوازنات الإقليمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يبدو لبعض المتابعين للشأن العراقي أن عنوان هذه المقالة يعكس قدراً من المبالغة في تقدير حجم الدور، الذي يمكن أن تلعبه الجماهير العراقية الغاضبة والمصممة على استعادة عراقها المغتصب في التأثير على ملامح التوازنات السياسية، بما يتجاوز الداخل العراقي إلى ما هو إقليمي، إلا أنه يمكن القول بقدر من الثقة وبقدر كبير من الموضوعية بأنه لا مبالغة بذلك، لأن العراق كان في جميع العهود التي مر بها قبل العام 2003 بلداً لا يستهان بقوته ولا بمواقفه السياسية عربياً وإقليمياً، وسيعود كذلك حين يسترجع بعد حين سيادته على رسم استراتيجياته واتخاذ قراراته عندما يتولى «أبناؤه» مقاليد أموره.

كان الأول من أكتوبر 2019 موعداً مع شباب العراق وصباياه، للبدء بتحقيق هذا الحلم في ساحات المدن وشوارعها، موعداً مع تبني سيناريو جديد لصياغة مستقبل البلد، من خلال انتفاضة جماهيرية لم يسبق لها مثيل، تُرسم فيها معالم جديدة لشرعية الحضور في مسرحه السياسي بعد تجربة مريرة من الفشل والإخفاقات على مدى ستة عشر عاماً مقيتة من سيطرة أحزاب الإسلام السياسي، عبر لعبة برلمانية وصناديق اقتراع ومفوضية انتخابات وقانون انتخاب ودستور صممت كلها، لضمان بقاء هذه الأحزاب في سدة الحكم.

على المستوى الرسمي شهدنا مبكراً قراءتين متضاربتين لأبعاد هذه الانتفاضة، فبعد المجزرة الأولى التي ارتكبت بحق المتظاهرين في الأسبوع الأول من أكتوبر المنصرم خرج علينا رئيس هيئة الحشد الشعبي ومستشار الأمن القومي العراقي برؤية، يتهم بها الغضب الشعبي العارم بأنه أداة مؤامرة يراد بها النيل من نظام الحكم القائم في تعارض تام مع القراءة الرصينة للرئيس العراقي برهم صالح، الذي شخص بدقة دوافعها وهي البؤس والحرمان التي يعيشها معظم الجيل الجديد من الشباب.

موقفان ترتبا على قراءتين منحازتين لطرفين أصبحا في خندقين متعارضين ترتب عليهما أن يتطورا لاحقاً إلى سقوط حكومة عبد المهدي، ثم إلى ما هو أبعد من ذلك في سياقات الصراع على من يخلفه.

بدأت الأزمة بين كتلة البناء في المجلس النيابي والرئيس العراقي، الذي رفض تمرير مرشحيها لرئاسة الوزارة منذ انطلاق الانتفاضة، وبدأ احتراق مرشحي هذه الكتلة لرئاسة الوزارة القريبين من إيران في ساحات التظاهر وسقوطهم الواحد تلو الآخر، وتراجع حظوظ السياسيين الموالين لها، وبضمنهم قيادات هذه الكتلة وتزايد عزلة هؤلاء الحلفاء في العراق، وفي غيره من دول المنطقة عن شعوبهم.

المشكلة الآن ليست في قصر السلام، حيث يقبع الرئيس العراقي، بل في مبنى المجلس النيابي غير القادر على رؤية الأزمة الحالية بأبعادها الحقيقية أو بالأحرى التعامي عن ذلك، وبالتالي غير قادر على اتخاذ قرار يرقى إلى مستوى خطورة الأحداث وترشيح من يحظى بدعم المنتفضين لرئاسة الوزارة.

كتلة البناء بزعامة هادي العامري متمسكة بنهج فرض مرشحها لرئاسة الوزارة على رئيس الدولة وعلى ساحات الانتفاضة، وهي بذلك لا تترك أمام فرقائها غير خيار التصعيد، فقد أعلن المنتفضون بأنهم لا محالة ذاهبون إلى ذلك إن تطلب الحال.

هذه الكتلة تعمل على سيناريو استهداف الرئيس برهم صالح برلمانياً بغية عزله من منصبه، والتوافق على بديل لا يعترض على إملاءاتها، إلا أنها تغامر بالذهاب إلى المزيد من العزلة فما رشح عن مواقف الكتل البرلمانية الأخرى ليس في صالح هذا السيناريو، فالرئيس برهم صالح بعد إعلان انحيازه، قولاً وفعلاً، لصالح المطالب الشعبية أصبح في موقع أكثر قوة محلياً وإقليمياً ودولياً مما كان عليه قبل الأزمة، فهل ستلجأ هذه الكتلة للعنف لفرض مرشحيها، ونشهد طوراً جديداً من الصدامات التي بدأت تباشيرها فعلاً مع توسع عمليات الخطف والاغتيالات التي تمارسها الميليشيات.

إصرار كتلة البناء على التمسك بنهج لي الأذرع وكسر الإرادات ليس في صالحها، فالتوازنات المحلية والإقليمية والدولية لم تعد تمنحها أي ضمان بالنجاح، فإيران وأتباعها في المنطقة وهي من ضمنهم باتوا يترنحون تحت إرادات رفض أجندتهم المتعارضة مع رغبات شعوبها ناهيك عما يعانيه النظام الإيراني نفسه من عزلة في الخارج، وما يتعرض له في الداخل من نقمة شعبية متصاعدة، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية جراء السياسات الفاشلة التي ينتهجها محلياً وإقليمياً، وجراء القمع الذي تواجه بها حركات الاحتجاج على ذلك.

Email