التفكير في العام القادم

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما إن يهل هلال عام جديد حتى يكون هناك طوفان من الدراسات والكتابات التي تضع خلاصة العام الذي ذهب؛ وتأتي بثمار العام الذي سوف يأتي.

هذه المرة فإن العام ٢٠٢٠ لا يأتي وحيداً فهو يبدأ عقداً جديداً يخلق براحاً للتفكير والتدبر خاصة أنه يأتي بعد العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين الذي كانت له علاماته المتميزة والتي لم يكن هناك ظن يأتي بها عندما كان الناس يقفزون فرحاً عند نهايات عام ٢٠٠٩ قبل عشر سنوات.

ولكن أحداً لا يراجع على أية حال عما إذا كانت التوقعات حول القادم كانت صحيحة أم لا، دقيقة أم معوجة؛ أو أنها كانت محض تخريف ما لبث أن تجاوزها الزمن والحال. وفي العموم فإن جميع مراكز البحوث والدراسات، وكثيراً من المؤسسات الصحفية لابد لها من مراجعات العام وتوقعات الآخر، مع اختلاف في العمق والتحليل، بل وحتى المدى الزمني الذي كثيراً، كما سوف نرى، ما يتعدى العام إلى ما هو سحيق في المستقبل.

وعلى سبيل المثال فإن كلا من فرانسيس فوكاياما، وصمويل هنتنجتون اتجها في مطلع تسعينيات القرن العشرين إلى رؤيتين متضادتين تماماً، فبينما قال الأول «نهاية التاريخ» التي يكون العالم فيها ملتحفاً بالليبرالية والديمقراطية والرأسمالية في ثوب من «العولمة» التي تنتقل فيها القيم والسلع والبشر والتكنولوجيا في سهولة ويسر؛ فإن الثاني كان قاطعاً بأن ما يحمله «المستقبل» هو «صراع الحضارات» بين أديان وثقافات وباختصار هويات متناقضة.

قبل أكثر من عام قليلاً، أعلن الأول أن الثاني هو الذي كان على صواب وأن رؤيته انتصرت في صراع التفكير والأفكار؛ ولكن ذلك احتاج لثلاثة عقود لمعرفة مستقبل كان غامضاً كثيراً بعد انهيار الحرب الباردة، ولا يعني الواقع الآن أنه بالضرورة سوف يعلن فساد النظرية الأولى فلا زال هناك في العالم من يقول إنها لا تزال معبرة عن الواقع.

هذه النوعية من الاستشراف بعيد المدى لا تظهر في نهايات الأعوام، اللهم إلا من خلال محاولات للقياس ما بين عامين ٢٠١٩ و٢٠٢٠ مثلما فعل المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية الذي رأى تياراً لتراجع الديمقراطية في العالم خلال العام القادم في بلدان كثيرة، وتعرضها لاختبارات أكثر خطورة في بلدان أخرى.

هذه النوعية من «المستقبليات» عادة ما تكون ذات موضوع واحد؛ ولكنها تأخذ بمنهج مد ما جرى في العام الآفل إلى ما سوف يحدث في العام القادم أو ما يسمى Projection بمعنى أخذ منحنى الأحداث على استقامتها لكي تدلل بدرجة ما على ما سوف يحدث.

وعلى سبيل المثال فإن المؤكد هو أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية سوف تجرى في العام القادم، وأنه سوف يسبق التناطح الديمقراطي الجمهوري على الفوز بالبيت الأبيض الانتخابات الحزبية التمهيدية في الحزب الديمقراطي، فهذا ما هو موجود في الدستور والتقاليد السياسية الأمريكية؛ ولكن التنبؤ أو Prediction فهو مسألة تحليلية تبحث عمن سوف يكون لديه فرص أكبر في تسمية الحزب الديمقراطي وما سوف تكون عليه نتيجة المنافسة مع دونالد ترامب.

ما بين هذا وذاك توجد حزمة من التوقعات الممكنة حول مسار الأحداث أو Prospects عما إذا كان مسار ما هو معروف ومضمون الحدوث سوف يكون عنيفاً أن سلمياً أو يكون معبراً عن تحالفات بعينها أو أخرى.

وبينما يشكل كل ذلك ازدحاماً كبيراً في المنتجات المتعلقة بقصة العام القادم، فإن تياراً آخر يركز على الصورة الكبيرة أو التوجهات Trends التي كثيراً ما يتعدى مداها الزمني عاماً واحداً فيكون التركيز على تدهور مكانة الولايات المتحدة كدولة عظمى، وهذا كان يمكن رصد علامات منه قبل أعوام؛ ولكن العام المقبل ربما يكون فارقاً.

وأيضاً ملاحظة أن مركز التجارة العالمية ينتقل من المحيط الأطلنطي حيث أمريكا في ناحية والاتحاد الأوروبي في ناحية أخرى، إلى شرق آسيا كان يمكن ملاحظته مع النمو الكبير للاقتصاد والتكنولوجيا لدى الصين والهند ودول جنوب شرق آسيا، ولكن من كان لديه شك في هذه الحقيقة قبل عام فربما سوف ينقطع الشك باليقين في التطورات التي جرت في العام المنصرم، وهي مستمرة معنا في العام الجديد. المثال أيضا ينطبق على الثورة التكنولوجية المعاصرة.

 

 

Email