قايد والرحيل الأسطوري

ت + ت - الحجم الطبيعي

كأنه فيلم من أفلام الخيال العلمي والأساطير التاريخية الخارقة لنواميس الكون، التي تلعب بالأزمان والحيوات كيفما تشاء، وتشحذ المخيلة، وهي تبعث في كثير من الأحيان على عدم التصديق، لكنها مع ذلك لا تخلو من دهشة وانبهار وِعبر تدعو للتأمل.

عن رحيل الفريق«أحمد قايد صالح» رئيس أركان الجيش الجزائري. وبطبيعة الحال، الموت حق علينا جميعاً لكن توقيته في تلك الحالة حَفلَ بكثير من المعاني والدلالات، أتمنى على من هم في الشارع والميادين من الجزائريين، منحها من الثقة ما تستحقه من تقدير وتفهم.

ووسط، أنواء عاصفة حمى «أحمد قايد صالح» الجزائر باقتدار، من مؤامرات الفوضى الخلاقة، التي رسمت خيوطها ونفذتها بصلف، الإدارة الأمريكية السابقة، بزعم الدفاع عن شعارات براقة عنوانها العلني الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما تنفذ في الواقع أجندة غربية خفية لخدمة مصالح دولية.

في القلب من تلك المصالح، فكرة بغيضة يثبت الواقع الفعلي وما يحدث على الأرض فشلها كل يوم، ويجري التمسك بها برغم رفض الشعوب لها، أو ربما بسبب ذلك.

وتتمثل تلك الفكرة في تمكين تنظيم جماعة الإخوان الإرهابي من السلطة في دول المنطقة، لتشتعل فيها حروب أهلية يقضي فيها الجميع على الجميع، في حروب طائفية ومذهبية، تأتي على الأخضر واليابس فيما يتفرغ الغرب لنهب مواردها، وتصدير سلاحه، وتنصيب إسرائيل الدولة العظمى الوحيدة في الإقليم بدعم من ذلك التنظيم.

وما يقوم به الآن الإخوان لتدمير أركان الدولة الليبية، وجلب دواعش سوريا والعراق وتركيا وأعضاء القاعدة في أفغانستان، لدعم بقائه في السلطة، وخوض حروبه مع الجيران، لا يحتاج إلى تفسير. فيما يجوب مندوب المنظمة الدولية ومبعوثها، العالم وهو يرفع لافتة صاغها بنفسه، لكي يقول أن هذا التنظيم الإرهابي هو الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً!

كان بمقدور القايد صالح، وقد بلغ عامه الثمانين، أن يكتفي بتاريخه الناصع في خدمة وطنه، وأن ينأى بنفسه عن الصراعات اليومية المرهقة التي حملها 45 أسبوعاً من الحراك الشعبي الجزائري.

خرج معظم ذلك الحراك من عباءة الثورة الرقمية التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي، صارخاً ضد الاستبداد السياسي والفساد والتهميش والغبن الاجتماعي بينما أضاف نظيره في دول المشرق العربي إلى العوامل المحركة لغضبه، رفض الدولة الطائفية والمطالبة بمنع التدخلات الخارجية الإيرانية والأمريكية والتركية في شؤونها. لكن قايد صالح تمسك بالبقاء في معركة إعادة بناء الدولة حتى الرمق الأخير، وانتشالها من براثن الفساد والإرهاب الذي يرفع رايات دينية وبات يستخدم الحراك لتمرير مشروعه.

فقد أدرك كمناضل من الحرس القديم من الجبهة التي قادت حرب التحرير من الاستعمار الفرنسي، وشيدت دولة الاستقلال عام 1962، أن ترك الساحة مع بدء الحراك المنقسم على نفسه، والذي يغيّر من مطالبه أسبوعاً بعد آخر، والذي انطوت بعض شعاراته على أجندات خارجية تهتف ضده هو شخصياً وضد المؤسسة العسكرية وتدعو لعزله من قيادتها، كرمز من رموز النظام الذين يطالبون بإسقاطه، ليس تعففاً، بل تخل عن مسؤولية وطنية، يلزم الدستور المؤسسة التي يقودها وهي الجيش، بحماية أمن الدولة الوطنية، والحيلولة بينها وبين الانجرار نحو حرب أهلية لتعيد إلى الأذهان تاريخاً مؤلماً لم يبرح الذاكرة بعد، للعشرية السوداء، في تسعينيات القرن الماضي التي شنت فيها التنظيمات الدينية المسلحة بقيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ حرباً وحشية ضد الدولة والمجتمع.

وكما بات معروفاً، فقد بدأت تلك الحرب بعد أن أعلنت تلك التنظيمات، عقب فوزها في الجولة الأولى للانتخابات التشريعية، أن الديمقراطية حرام، وكفّرت من يطالب بها، وراحت تطبق فهمها الخاص للشريعة في الولايات التي حازت على أغلبيتها، بالفصل بين الرجال والنساء في الطرق والمؤسسات العامة، ومنع الاختلاط بينهم على الشواطئ والمدارس والجامعات، والسماح بزواج القاصرات، وقطع الأطراف، وغير ذلك من القائمة المعروفة للمتاجرين بالأديان، فتصدت لهم الدولة الجزائرية والمجتمع بكل فئاته، لمنعهم من خوض الجولة الثانية من الانتخابات، لوقف تنفيذ برنامجهم الظلامي، بعد أن ظنوا أن التصويت العقابي ضد الحزب الحاكم، هو تفويض لهم بتغيير هوية الدولة الجزائرية.

ذلك هو التاريخ الفعلي لتلك الحقبة التي يسعى التيار الديني لطمسها، وقلب الحقائق بشأنها، لتبرير جرائمه، التي خلفت وفقاً لتقارير حكومية، ما بين 150 و200 ألف قتيل، وكلّفت أكثر من 25 مليار دولار فضلاً عن تدمير مؤسسات الدولة، وبث الذعر في المدن والقرى في قلوب من يتجرأون على التصدي لتلك الجرائم.

لم يترك «أحمد قايد صالح» نفسه نهباً لأية استفزازات وتطاولات كانت مقصودة بطبيعة الحال، لكنه شأن كبار القادة، احتضن مطالب الشعب الجزائري، وساهم في عزل بوتفليقة، وقاد مسؤولين سابقين للمحاكمة بتهم الفساد، وحمى الحراك الشعبي الجزائري من أي عدوان، وأجرى انتخابات رئاسية في ظروف عصية على إرضاء الجميع، لكنها نفذت العهدة الدستورية، ليفوز بها مناضل آخر من المناضلين في حرب التحرير والاستقلال. فطبت حياً وميتاً أيها القائد العظيم.

 

 

Email