حروب المعلومات باقية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كم الضحك والسخرية والتهوين والتشكيك فيما حذر منه خبراء قبل سنوات قليلة من حروب غير تقليدية، لم يألفها العالم، ولم يتعرض لها سكانه، اسمها «حروب الجيل الرابع» دفع البعض إلى اعتبارها نوعاً من الخيال وضرباً من الترهيب.

وعقود طويلة استخدم خلالها كل من هب ودب «المؤامرة» كمخلص من الأزمات، ومحلل للإخفاقات، ومبرر للتقاعسات أدت إلى التشكك في كل تحليل سياسي أو شرح اقتصادي يتعامل مع التآمر على أنه واقع معاش. أفرط البعض في الصراخ «الذئب» «الذئب» للترهيب والتخويف. وحين جاء الذئب فعلياً، لم يلتفت أحد.

اليوم وبينما الأحداث تؤكد أن المؤامرة أداة حقيقية تستخدم بحرفية ومهارة للقضاء على دول والإجهاز على ثقافات، وبينما المجريات تبرهن على أن حروب المعلومات ومنازلات الإعلام واقتتالات الإشاعات صارت واقعاً معاشاً، مازال هناك من يرفض التصديق وينكر ما نراه رؤى العين ونعيشه معايشة يوماً بيوم.

وعلى مدار ست سنوات، وتحديداً منذ قررت مصر الانتفاض على الجماعات الخائنة والتخلص من حكم المضللين والمتآمرين والأفاقين، وحرب ضروس تدور رحاها على ساحات افتراضية وإعلامية. تارة شائعات تٌرَوَج باعتبارها معلومات من جهات موثوق فيها، وأخرى مغالطات تُتَداوَل وكأنها حقائق لا ريب فيها، وثالثة أنصاف وقائع يجري إعادة تدويرها على إنها حدثت بالأمس القريب، ناهيك عن سلاسل التحليلات السياسية الصادرة عن جهات كان يشار إليها بالبنان باعتبارها مراكز بحثية محترمة ومراكز فكر معتبرة تحولت إلى ماكينات تصدر فكرة واحدة لا ثاني لها، ألا وهي أن محمد مرسي هو أول رئيس «مدني» منتخب أتت به الصناديق، وأن خروج ملايين المصريين على حكم الجماعة هو «انقلاب عسكري أنهى المسار الديمقراطي الرائع للبلاد».

وسارت الحرب الشعواء قدماً بأدواتها التي يجري بثها عبر أثيري العنكبوت والفضائيات ومعها الصحف والمراكز البحثية وثلة من الأكاديميين والنشطاء الذين لا يعون من العلوم السياسية وحقوق الإنسان إلا ما درسوه من نظريات في المراجع، فاصلين إياها تماماً عن متغيرات أرض الواقع وإرادة الشعوب، أوما تمليه عليهم جهات التمويل والتشغيل.

وعلى الرغم من الهدوء النسبي الذي يكتنف هذه الأصوات والساحات، إلا أنه بين الوقت والآخر، تعاود النظريات تأججها أو تنشط مصادر التمويل وتغذي حساباتها، فتظهر حملة شعواء سواء على لسان «مقاول فنان» أو «كاتب ساخر» أو «مذيع فاشل» أو ما شابه.

ولأن أوجه التشابه كثيرة في العوامل التي تؤدي إلى تأجيج غضب المتآمرين وتجديد الأمل في إسقاط دول أثبتت أنها عصية على السقوط والتوقيع بين أخرى برهنت إنها أكبر وأحكم من الانصياع خلف شائعات ومغالطات، فإن دولة الإمارات تجد نفسها هي الأخرى في مرمى حروب الإشاعات والمغالطات. حملة تشويه ممنهجة تتعرض لها المنتجات الإماراتية على أمل إلحاق الضرر الاقتصادي بها من جهة، وتشويه سمعتها ومكانتها التجارية والتصنيعية من جهة أخرى، والإيقاع بينها وبين السعودية على سبيل «صيد ثلاثة عصافير بحجر واحد».

والرهان على توقف أحجار حروب المعلومات والإشاعات رهان خاسر. لكن الراهن الرابح هو تثقيف وتوعية الشعوب على ما يجري. فإذا كان التفوق العسكري والغلبة القتالية والبراعة التكتيكية أمور قادرة على حسم الحروب الدائرة في ساحات المعارك التقليدية، فإن الوعي والتثقيف والقدرة على تبين المعلومة من الإشاعة من قبل المواطنين العاديين هي أدوات الحسم في حروب ألفيتنا الثالثة.

ألفيتنا الثالثة شهدت مبادرة مناهضة للأخبار المفبركة شنتها حكومة فنلندا في عام 2014. المبادرة شملت محاضرات ولقاءات مع الطلاب والصحافيين والسياسيين والمقيمين لتدريبهم على كيفية مواجهة المعلومات المغلوطة التي تهدف إلى زرع الفتنة والانقسامات في المجتمع.

وينبئنا خبراء الذكاء الصناعي أن قدرة هذا الذكاء على إطلاق وبث ونشر الأكاذيب والأخبار المغلوطة والإشاعات تساوي قدرته في محاربتها. بمعنى آخر، ستظل الحرب قائمة بين الجبهتين مستخدمة السلاح التقني نفسه.

وحيث إننا على الأرجح نمضي قدماً نحو الفترة الأكثر اضطراباً من حيث المعلومات والحقائق في التاريخ، فعلينا أن نتسلح بمزيد من الحكمة والواقعية والعلم. الحكمة مطلوبة للتعامل مع الأوضاع دون تهويل أو تهوين مع اعتبار تثقيف المواطنين عملية مستمرة لا تتوقف بتوقف الإشاعات في حال تحسن العلاقات مثلاً مع الدول المتآمرة أو تحول ساحة المعركة إلى دولة أخرى. والواقعية مكون رئيسي، حيث إن تجاهل الأخطار المحدقة، أو التهوين من الحرب الدائرة، أو محاولات الحماية بمعايير الألفية الثانية من حجب ومنع وتضييق لا تجدي نفعاً. أما العلم فهو السلاح الأوقع. وحيث إن مبدأ «داويها بالتي كانت هي الداء» مبدأ أممي مختبر ومضمون، فإن مداواة استخدام الذكاء الصناعي لنشر الفتن وبث الإشاعات تتم باستخدام الذكاء نفسه لدحض الأكاذيب والوقاية من الألاعيب.

هي حرب ونحن جديرون بخوضها والفوز فيها.

* كاتبة صحافية

Email