الناتو.. نهاية مؤجلة وأزمة مستمرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما تنفس قادة حلف «الناتو» الصعداء مع نهاية اجتماعاتهم في لندن الأسبوع الماضي. فلم تتحول مناسبة مرور سبعين عاماً على إنشاء الحلف إلى موعد مع نهايته كما توقع الكثيرون، ولم تنفجر الخلافات بين الأعضاء لتكتب السطر الأخير في حكاية أقوى تحالف عسكري في عالمنا.

لكن لقطة الختام في اجتماعات الحلف هذا العام، كانت تؤكد عمق الأزمة التي يمر بها الحلف، والتي جعلت الرئيس الفرنسي «ماكرون» يصفها بأنها حالة «موت إكلينيكي» لا يريد الكثيرون أن يعترفوا به، في اللقطة الأخيرة كان هناك هذا التسريب لفيديو يجمع بعض أكبر زعماء الدول الأعضاء وهم يسخرون من الرئيس الأمريكي «ترامب»، وهو ما رد عليه «ترامب» بإلغاء مؤتمره الصحافي في ختام الاجتماعات، متحاشياً تقديم مادة إضافية للحملة التي يقودها «الديمقراطيون» داخل أمريكا من أجل عزله، أو قطع الطريق على رئاسة ثانية له.

الأزمة باقية، لكن النهاية لم تحن بعد، هذا هو الانطباع الذي يتركه قادة الحلف بعد اجتماعهم، الحلف الذي قام أساساً لحماية أوروبا في مواجهة حلف «وارسو» والكتلة الشرقية أصبح موضع تساؤل داخل أوروبا نفسها، مع تنامي التوجهات اليمينية المتعصبة، والحركات والأحزاب التي تعادي الوحدة الأوروبية وترى أن الاتحاد الأوروبي أصبح عبئاً على الدول الأعضاء.

وتركيا التي كانت تمثل الخط الأمامي في مواجهة الاتحاد السوفييتي وحماية أوروبا، تتحول الآن (مع سياسات أردوغان) إلى شوكة في خاصرة أوروبا، بعد أن أصبح «الابتزاز» هو الشعار التركي الأساسي في التعامل مع أوروبا وحلف «الناتو»، ابتزاز بالتهديد بإغراق أوروبا باللاجئين، أو بعناصر الإرهاب التي رعتها تركيا لسنوات واستخدمتها في العراق وسوريا، أو ببدء حروب الغاز شرق المتوسط، والعبث بأمن دول جنوب المتوسط، كما يحدث الآن في ليبيا.

أزمات كثيرة ومصاعب هائلة يواجهها «الناتو» وتفرض على دولة مثل فرنسا أن تحاول التصدي لذلك.

سواء بمحاولة بناء جبهة ديمقراطية معتدلة للتصدي للتوجهات اليمينية الصاعدة داخل أوروبا، أو بطرح مشروع بناء القوة العسكرية الأوروبية لتكون الأساس في الدفاع عن أوروبا، والبديل في حالة انتقال حلف «الناتو» من الحالة التي يسميها الرئيس الفرنسي «ماكرون» «الموت الإكلينيكي» إلى حالة الموت الكامل.

لكن الصعوبات أمام هذا الطريق تبدو جمة في ظل ما تكشف عنه اللقطات الختامية لاجتماعات الحلف في الأسبوع الماضي، من اتساع الهوة بين الرئيس الأمريكي «ترامب» من جانب وباقي الأعضاء من جانب آخر.

فالحقيقة التي لا يمكن الهروب منها أن قيادة الولايات المتحدة لـ«الناتو» هي العامل الحاسم في بقاء الحلف وقوته. والواقع يقول إن الحلف يفتقد الآن هذه القيادة بمعناها الحقيقي! ولا يعود هذا «الافتقاد» فقط إلى ما يعانيه الرئيس ترامب من مشكلات داخلية وصراعات تزداد شدة مع اقتراب عام انتخابات الرئاسة.

لكنه يعود في الأساس إلى النظرة التي ينظر بها الرئيس «ترامب» إلى مصالح الولايات المتحدة، وأسلوبه في تطبيق ما يراه إعادة عظمة أمريكا، يتصرف الرجل بعيداً عن استراتيجية شاملة تحكم سياسات إداراته، ويكتفي بالتعامل كرجل أعمال، فتصبح قضيته مع دول «الناتو» هي أن يرفعوا مساهماتهم المالية وميزانياتهم العسكرية ليرفعوا العبء عن الولايات المتحدة. وهو أمر كان من الممكن أن يتحقق بسهولة أكبر لو أن الثقة المتبادلة موجودة.

لكن كيف تمضي الأمور إذا كان «ترامب» لا يخفي عداءه للاتحاد الأوروبي، ودعمه لكل خروج عليه؟! وكيف تمضي الأمور إذا كانت الحرب التجارية تتصاعد بين أمريكا ودول أوروبا يوماً بعد يوم؟! والأهم هو كيف يمكن بناء الثقة ودول أوروبا ترى أمريكا تنفرد بالقرارات في قضايا مهمة تمس الأمن الأوروبي، بعيداً عن أي رؤية موحدة لحلف «الناتو»؟! ثم كيف يكون الأمر إذا كانت العلاقة بين «ترامب» و«بوتين» على هذا القدر من «الغموض» الذي لا تستطيع أوروبا حساب عواقبه على أمنها؟!

الثقة مفتقدة بين الجميع، والأهم أن الدور غائب، والقيادة الحقيقية للتحالف الغربي الأكبر غير موجودة.

كل التحالفات التي سعت أمريكا لإقامتها واعتمدت عليها بصورة أساسية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، لم تكن تبرعاً خيرياً، وإنما كانت جزءاً أساسياً من استراتيجية شاملة مكنت أمريكا من أن تربح «الحرب الباردة»، وأن تحفظ مصالحها وتنمي قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية لتكون الأعظم في العالم.

الكثيرون في الولايات المتحدة الأمريكية «ومنهم الثعلب العجوز كيسنجر» يحذرون من أن الحرب الباردة الجديدة قد بدأت بالفعل.

ويدركون أن أمريكا لا تستطيع الاستمرار في الصراع على القمة اعتماداً على قوتها الذاتية الكبيرة وحدها، وأن المنافسة ستشتد وتحتاج لبناء التحالفات وتقوية الشراكة واكتساب الأصدقاء، بينما المشهد في اجتماعات حلف «الناتو» - وفي أزمات أخرى تجتاح العالم - يشير إلى منهج آخر يتصور أن ما ينجح في عالم «البيزنس» يصلح بالضرورة في التنافس على قيادة العالم وإدارة أزماته، في فترة تحول هائل مليئة بأخطر التحديات.

 

 

Email