لا انفراج قريباً في العراق

ت + ت - الحجم الطبيعي

عنوان المقالة به قدر من التفاؤل عكس ما يوحي به للوهلة الأولى، فمن المستبعد جداً في ضوء التصاعد في أزمة الحكم في العراق أن تتراجع إرادات الرفض للنظام السياسي القائم، وهو ما يضعف من القدرات على التنبؤ بمسارات الأحداث المقبلة. فبعد أن قدم رئيس الوزراء استقالته إلى رئيس مجلس النواب، دخل العراق في منعطف جديد ربما لا تخلو بعض مساراته من عنف قد يفوق ما شهدناه، فالطبقة السياسية الحاكمة ومن يقف وراءها، لن تستسلم لواقع الحال وتخضع لإرادة الانتفاضة، فاستقالة عبد المهدي ليست نهاية المطاف.

لم يعد جوهر الأزمة المتصاعدة شدتها يدور حول مطالب معيشية أساسية تتعلق بالحياة اليومية للعائلة العراقية، بل أصبح حول الموقف من التغلغل الإيراني العميق في بنية الدولة العراقية، وإذ يرفع المنتفضون من سقف مطالبهم في ضوء «استيقاظ» بل «اشتعال» الروح الوطنية العراقية لا نرى تراجعاً في عنف الإجراءات التي تتخذها الدوائر الأمنية في مواجهتهم وسط تصريحات استفزازية لا تخلو من الوقاحة تستهدف النيل منهم تصدر عن مسؤولين إيرانيين على أعلى المستويات.

هناك من يُعزي استقالة عبد المهدي إلى تخلي إيران عن التمسك به استباقاً للحد من التردي في فاعلية دورها في رسم الاستراتيجيات في العراق، وهناك من يُعزي ذلك إلى رفع المرجعية الدينية في النجف غطاء حمايتها له في آخر خطبها التي تنشر كل أسبوع، وهي تحليلات تجافي الموضوعية ولا تخلو من أهداف سياسية يراد بها الانتقاص من دور الانتفاضة وحجم التضحيات التي قُدمت خلالها. الانتفاضة الشعبية العراقية هي التي أطاحت حكومة عبد المهدي، وهي بذلك قد أطاحت النظام السياسي الذي نشأ بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، وهو نظام المحاصصة وتبادل المصالح بين النخب السياسية الحاكمة، إذ لم يعد هناك مجال للسماح باستمرار وجوده بعد أن نضجت وبعنف جميع متطلبات التخلص منه.

من المتوقع أن تتجه الصراعات حول من يخلف عبد المهدي بين الكتل السياسية إلى مزايدات لكسب رضا الشارع الثائر، وهو أمر صعب المنال، لأنه لم يعد يثق بالوعود التي مل الاستماع إليها لعدم جدواها، فضلاً عن القناعة بعدم قدرة هذه الكتل على القيام بإصلاحات جوهرية ترقى إلى مستوى طموحاته، فالأسماء التي يجري تداولها خلفاً لعبد المهدي هي من الوسط السياسي المرفوض نفسه. من جانب آخر لن يكون من السهل تشكيل حكومة جديدة وفق الآلية المعمول بها بعد أن دخل الشارع العراقي عاملاً أساسياً في تحديد ملامحها، مدلياً بصوت مدوٍ جداً، رافضاً بشكل كامل جميع الوجوه المعروفة في العملية السياسية بتكتلاتها وأحزابها.

تشكيل الحكومة الجديدة وتسمية رئيس الوزراء الجديد سيكون بمثابة اختبار للنخب السياسية على مدى جدية دعواتها للاستجابة لرغبات الشارع المنتفض. طور جديد في مسيرة العراق نحو المستقبل ونحو إعادة رسم علاقاته مع دول الجوار على أسس جديدة خاصة مع الجارة الشرقية إيران اللاعب الأكبر في الشأن العراقي، التي احترق الكثير من أوراقها ولم يعد لديها ما كانت تمتلكه على مدى السنوات الماضية، فحلفاؤها من قادة الأحزاب لم تعد وجوهاً مقبولة لدى الجمهور الذي نادى بصوت مرتفع بإسقاطها خلال انتفاضته.

من ناحية ثانية أضعفت الانتفاضة إلى حد كبير دور رجال الدين في تهيئة الأجواء لتمرير مشاريع تكريس تقاليد السنوات الماضية في استمرار الطبقة الحاكمة بالتمتع بامتيازاتها، وهو مكسب كبير نحو تعزيز شعبية الأجواء التي تساعد على بناء الدولة المدنية، نأمل أن يُبنى عليه هذا، على الرغم من أن عبد المهدي عمل خلال الأزمة على إبراز دور رجال الدين في صناعة القرار السياسي، وهو مما يتعارض كلياً مع الدستور نصاً وروحاً. فليس هناك فسحة للحديث عن موقف تتخذه شخصية أو هيئة دينية لا دور لها في الدستور، ويتخذ رئيس الوزراء قراراته في ضوئها.

مطالب الشارع الثائر لم تعد مقتصرة على ما طرح في الأول من أكتوبر يوم انطلاق شرارة الانتفاضة بل تجاوزتها إلى طلب معاقبة جميع من أصدر قرارات إطلاق النار على المتظاهرين، وتسبب حتى الآن بما يزيد على الأربعمائة قتيل، ووقوع ما يزيد على عشرين ألف مصاب، بينها ما لا يقل عن ثلاثة آلاف حالة إعاقة جسدية مستديمة.


ـــ كاتب عراقي

Email