انتماء لا رياء فيه

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كانت المحبة والمودة والامتنان بين البشر هي أشياء لا تشترى، فإنها كذلك لا تشترى بين الشعوب وأوطانها. يسمونها ارتباطاً حيناً، وانتماءً حيناً، ودائماً تكون أكبر من الكلمات وخارج سياق الوصف والتوصيف. هي مشاعر إما تولد وتنمو وتزدهر، أو تجد حائطاً صداً يحول دون تطورها وتفاعلها.

تفاعل أشقائنا وشقيقاتنا من أبناء دولة الإمارات، القريبة من قلب وعقل كل مصري ومصرية، مع وطنهم من الأمور الملفتة. فشتان بين محاولات زرع الوطنية غصباً في نفوس خاصمها الانتماء والامتنان للوطن، وبين الشعوب التي تصنع من الأوطان حضناً آمناً وأصلاً ذا فروع بازغة.

وفي مثل هذه الأيام من كل عام، يراقب العالم ما يجري في الإمارات. اليوم الوطني الذي يوافق الثاني من ديسمبر من كل عام لم يعد مجرد احتفاء أهل الإمارات بعيدهم، بل أصبح فرصة ذهبية للعالم لينظر إلى ما وراء المناسبة.

صحيح أن الاحتفالات الفنية رائعة، والاحتفاءات الثقافية مبهرة، والكلمات التي تلقى في الفعاليات مؤثرة، والمقالات التي تكتب عن المناسبة ثاقبة، لكن يظل المعنى سيد الموقف. المعنى تلخصه «روح الاتحاد» التي تقوم عليها دولة الإمارات قلباً وقالباً. إنها الروح التي لا تبذل مجهوداً خارقاً أو تضع مخططات مسبقة لتقول للعالم إن هذه الروح نموذج يحتذى لكيفية بناء الأمم على أصول راسخة من القيم والهوية والقواعد الأخلاقية التي تمثل حجر الزاوية في البناء.

أحجار الزاوية ليست مجرد أموال وفيرة، أو علم وبحث غزير، أو حتى موارد طبيعية وبشرية كثيرة. فكم من دول يتوافر فيها بعض أو كل مما سبق، لكنها لا ترتكز على حجر زاوية يعتد به أو يعتمد عليه، فتواجه عراقيل عدة في طريق تقدمها وتحضرها. وتكون عرضة لأن تعصف بها رياح فكرية هنا أو هزات ثقافية هناك. أما البناء الجيد والتشييد المتين فيكونان على أساسات قيمية راسخة يؤمن بها الجميع ويتمسكون بها لقناعتهم بأهميتها وجدواها.

وجدوى ملاحظة أجواء اليوم الوطني للإمارات لغير الإماراتيين تتجسد في النظر إلى ما وراء الأجواء الاحتفالية. هذه المشاعر الصادقة غير المصطنعة لدى أبناء وبنات الإمارات تقول الكثير. إنه الانتماء الذي لا رياء فيه، إنه الإيمان بما تحققه الدولة والقائمون عليها من إنجازات مدروسة جيداً وخطط معروفة الأهداف مسبقاً. إنه أسمى الأهداف: رفعة المواطن ورفاهه ورخاؤه في بيئة وطنية متمسكة بالجذور منتمية للمكان والزمان ممتنة للأولين. ولولا الأولين، لما كان اللاحقون. ولولا أن الأولين زرعوا وأسسوا واجتهدوا ليكون البنيان قوياً راسخاً لما حققت الإمارات ما حققته من مكانة راقية فعلاً وقولاً في العالم كله، وليس العربي فقط.

وهذا العام يأتي اختيار «روح الأولين» عنواناً للاحتفال وهدفاً للاحتفاء ليصيب أهدافاً عدة باحتفال واحد. في اليوم الوطني الـ48 لدولة الإمارات العربية المتحدة، تتجسد روح الاتحاد في تسليط الضوء على قيم الإمارات والتي تشكل جزءاً أصيلاً من هويتها المتفردة. ويبزع شعار «إرث الأولين» هذا العام ليؤكد عمق الموروث الثقافي والحضاري، والذي لا يتعارض بل يتكامل مع متطلبات العصر الحديث. هو نهج قائم على التسامح والتعايش، وهو تاريخ يحوي قصصاً ورثها الأبناء والأحفاد عن الأجداد. هي قصص لا تشكل إرثاً ثقافياً فقط، أو تراثاً حضارياً فقط، بل نبراساً تمضي عليه المدنية الحديثة والمسارات الآنية والمستقبلية.

ومن لا ماضي له لا مستقبل به، ومن لا يحتفي ويعز ويجل ويقدر من راحوا من أجله ومن أجل أبنائه لا حاضر له، فإن يوم الشهيد الذي يوافق اليوم الـ30 من نوفمبر هو يوم الوفاء والفخر والعز وتجذير الامتنان لكل من بذل دماءه وروحه في سبيل الآخرين.

كل من قدم حياته في داخل وطنه أو خارجه هو شهيد اسمه محفور في ذاكرة الأوطان. ومنذ عام 2015، والإمارات تحتفي بشهدائها الأبرار في هذا اليوم. هم وهبوا حياتهم ليهبوا الإمارات وأبناءها وبناتها حياة.

وربما لا يعلم كثيرون أن يوم الشهيد اختير له هذا اليوم الذي استشهد فيه في عام 1971 الشرطي سالم بن سهيل، والذي ضحى بحياته دفاعاً عن وطنه أثناء قيامه بدوره في حفظ الأمن في جزيرة طنب الكبرى، وذلك بعد ما رفض طلب جنود إيرانيين إنزال العلم الإماراتي، فأطلقوا عليه النار. هذه المناسبة لا تبتعد كثيراً عن مشهد الإقليم الحالي، ودور الإمارات في الدفاع عن الحق ودعم الشرعية التي تنغص حياة البعض. وفي ذلك اليوم الذي يشهد تكريماً لذوي الشهداء، يقرأ الجميع ويسمع ويشاهد مسيرات الأبطال وقصص تضحياتهم لتكون رمزاً وطنياً واضحاً ورسالة محبة خالصة يصب جميعها في اليوم الوطني لدولة الإمارات.

وليس هناك أفضل من كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، التي قالها في مناسبة اليوم الوطني للإمارات في عام 2016 لتلخص معنى العيد. «إن إنجازات دولتنا ونجاحاتها وتقدمها لم يأت من فراغ. ولم يحدث بالصدفة، فهو نتاج رؤية القيادة وعملها المخطط والمنظم والواعي والمخلص والدؤوب الذي يتوخى رفعة الوطن وسعادة المواطنين. وهو نتاج الاستمرارية والتواصل بين الأجيال. ونتاج العلاقة الفريدة العامرة بالحب والثقة والوفاء بين شعبنا وقيادته. ونتاج تطوير الذات والفكر والمعرفة ونتاج مواكبة العصر ومتغيراته والانفتاح على كل جديد ومفيد وكل تجربة ناجحة وكل ممارسة فضلى».

* كاتبة صحافية

Email