موناليزا واقع الحال العربي!

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد مرّ أكثر من ستّة عشر عاماً على إشعال شرارة الحروب الأهلية العربية المستحدثة في هذا القرن الجديد، والتي بدأت من خلال الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وتفجير الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية فيه، ثمّ بتقسيم السودان في مطلع العام 2011، ثمّ بتحريف مسارات ما يسمى بالحراك الشعبي العربي الذي بدأ بتونس ومصر، حيث أراد البعض توظيف الانتفاضات الشعبية العربية لكي تكون مقدّمةً للسيطرة والهيمنة من جديد على المنطقة، من خلال إشعال الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، ولتغيير سياسات وخرائط أوطان، وليس حكومات وأنظمة فحسب.

وقد رافق، في القرن الحالي، هذه الأجندات الإقليمية والدولية المتصارعة على الأرض العربية لعقدين من الزمن، نموّ متصاعد ومدعوم من الخارج لجماعات التطرّف المسلّحة التي استغلّت حالات الفوضى والعنف لكي تمتدّ وتنتشر، كتنظيميْ «داعش» و«النصرة»، بعدما صنعت والدتهما «القاعدة» لنفسها قيمة دولية كبرى من خلال أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى بالعالم.

واستغلّت إسرائيل طبعاً هذه الصراعات العربية البينية وساهمت بتأجيجها، فواصلت عمليات الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة مراهنةً أيضاً على تحوّل الصراع الأساس في المنطقة من صراعٍ عربي/‏‏‏إسرائيلي إلى صراعاتٍ أخرى.

هو انحدارٌ حاصلٌ الآن، بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف الأخرى، استخدامَ السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها، وفي صراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الأربعة الماضية. وقد ساهم في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي الأهلي، على المستوى الشعبي العربي، هيمنةُ الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية.

ومهما حدثت تطوّرات إيجابية على الأزمات العربية الراهنة، فإنّ السؤال يبقى: ما ينفع أن تخرج هذه الأزمات من النفق المظلم بينما تستمرّ عيون العرب معصوبةً بسواد الانقسامات الطائفية والمذهبية.

واقع الحال العربي الآن هو أشبه باللوحة الشهيرة: «موناليزا» أو «الجيوكاندا» التي رسمها الفنان الإيطالي دافنشي، حيث الابتسامة الجميلة في جانبٍ من الوجه وملامح الحزن في الجانب الآخر.

فما حدث مؤخّراً من حراكٍ شعبي في السودان والجزائر، ثمّ في العراق ولبنان، أكّد حيوية شعوب البلاد العربية وعدم قبولها بالاستسلام لواقع سياسي فاسد يتحكّم بها رغم إرادتها. لكن ما زالت هذه البلدان التي تشهد انتفاضاتٍ شعبية مهدّدةً بمخاطر أمنية وسياسية كثيرة.

«لا يصحّ إلّا الصحيح»، هو قولٌ مأثور يتناقله العرب، جيلاً بعد جيل. لكن واقع الحال لا يسير في هذا الاتّجاه، إذ أنّنا نجد، جيلاً بعد جيل، مزيداً من الخطايا والأخطاء تتراكم.

فهل يعني ذلك أن لا أمل في وصول أوطان العرب إلى أوضاع صحيحة وسليمة؟! أم ربّما ترتبط المشكلة في كيفية التفاصيل وليس في مبدأ هذا القول المأثور! فإحقاق الحقّ، وما هو الصحيح، يفترض وجود عناصر لم تتوافر بعدُ كلّها في مخاض التغيير الذي تشهده الأمّة العربية.

وبعض هذه العناصر هو ذاتي في داخل جسم الأمّة، وبعضها الآخر خارجي، حاول ويحاول دائماً منع تقدّم العرب في الاتّجاه الصحيح.

وصحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟. ماذا عن مسؤولية المواطن نفسه في أيّ بلد عربي، وعن تلك القوى التي تتحدّث باسم «الجماهير العربية»، وعن المفكّرين والعلماء والإعلاميين الذين يُوجّهون عقول «الشارع العربي»؟!.

فمفهوم «الدولة» القائم على ثلاثية: «الأرض والشعب والحكم»، ما زال موضع نقاش لدى القوى السياسية العربية المتنافسة على المعارضة وعلى الحكم، وهو أمر يمسّ جوهر وحدة الأرض والشعب والحكم.

فأيُّ وطنٍ للمستقبل يريده المنتفضون والساعون للتغيير في بعض البلاد العربية؟!، وهو السؤال الذي لم يجد بعدُ إجابةً شافية يتّفق عليها من هم في ساحات وشوارع بلاد العرب المنتفضة الآن!.

وكم هو مؤسفٌ ومحزنٌ معاً أن تقترن الديمقراطية في المنطقة العربية بسمات الاحتلال الأجنبي من الخارج وبالانقسام الطائفي والعرقي من الداخل، وبنموّ المشاعر المعادية للانتماء العربي وللهويّة العربية المشتركة.

فقد كانت هذه أيضاً هي سمات صراعات وخلاصات حصلت في أجزاء عديدة من الأرض العربية.

إنّ وجود حكوماتٍ فاسدة واستبدادٍ سياسي وبطالة واسعة وفقرٍ اجتماعي وغيابٍ لأدنى حقوق المواطنة المتساوية وللحرّيات العامة وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، كلّها عناوين لانتفاضاتٍ شعبية جارية أو كامنة، وراءها عشرات الملايين من المظلومين والفقراء على امتداد الأرض العربية.

لكن ماذا بعد الانتفاضات، وعلى أساس أيِّ برنامجٍ للتغيير؟

إنّ الممارسة الديمقراطية السياسية السليمة يُعبّر عنها عمليّاً في المجتمعات التي لا تخضع للاحتلال أو الهيمنة الخارجية، وتكون العملية الديمقراطية مرتبطة بكيفية اختيار الحكومات (السلطة التنفيذية) وبالرقابة عليها (السلطة التشريعية) وبالمحاسبة لها (السلطة القضائية)، وبحقوق المواطنين المتساوية في المشاركة بالحياة السياسية والاجتماعية، وبضمان الحرّيات العامّة للأفراد والجماعات.

لكن الحرّية، قبل أن تُمارَس كعملية دستورية ديمقراطية بين المواطنين، هي حرّية الأرض وحرّية الوطن وسيادة الشعب على أرضه وقراره الوطني.

في الواقع الآن، أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ومشاريع دولية لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأطرٍ سياسيّة، لكنّها تتضمّن بذور التفكّك إلى كانتوناتٍ متصارعة في الداخل، ومستندة إلى قوى في الخارج ومدعومةٍ بتدخّلٍ أجنبي متعدّد الأطراف على أبواب الأمّة العربية. تلك الأمّة التي بدأت كيانات وطنية فيها تتصدّع واحدةً تِلوَ الأخرى!.

 

 

Email