ضد الاغتيال

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الوقت الذي كان يستحضر فيه الفلسطينيون الذكرى الخامسة عشرة لشبهة اغتيال زعيمهم الأبرز للنصف الثاني من القرن العشرين ياسر عرفات، اغتال الإسرائيليون عياناً بياناً «بهاء أبو العطا»، أحد أهم القيادات الوطنية في قطاع غزة.

التكرار يعلم الشطار ولكن القوى الفلسطينية ما زالت تقع ضحية وسيلة غدر تبدو مكررة إلى درجة الملل. ومن ذلك القصف الجوي لبيوت أو لسيارات أو لأماكن تجمع المقصودين بالقتل، المدرجين سلفاً على قوائم الموت الاستخبارية الإسرائيلية، والنجاح في إصابة الهدف بدقة متناهية.

المثير للأسي والسخط أن تتوالى مشاهد هذا السيناريو اللعين، دون ظهور بشائر لإبداع آليات مضادة، تقي المعنيين من شروره، وتسوق العاكفين عليه بين أجهزة الظلام الإسرائيلية إلى الكف عنه وهجرانه.

المتداول، مثلاً، بهذا الخصوص أن هذه الأجهزة تستحوذ على محلول شفاف، لا يرى ولا يتم التعرف عليه إلا بواسطة معدات تقنية شديدة التعقيد، تحملها قذائف طائرات الاستطلاع المسيرة من دون طيار، وأن ما يلزم لإتمام عملية الاغتيال هو التأكد من بيت المستهدف أو مركبته أو مكانه ثم رش المحلول، ثم إطلاق القذيفة المبرمجة عليه بعد التأكد من وجوده في هذه الدائرة.

وسواء صح هذا التصور أم ابتعد قليلاً أو كثيراً عن الحقيقة، فإن مشاهد النيل من القيادات الفلسطينية تشترك جميعها في قيامها على تضافر عوامل بعينها: عناصر بشرية مبثوثة في الوسط الفلسطيني، تستطلع وتراقب عن كثب وتتولى المهمات اليدوية (كرش المادة إياها..)؛ وتكنولوجيا متطورة؛ وتنسيق مركزي بين هذه وتلك؛ وقرار سياسي بالتنفيذ في لحظة مواتية لتحقيق أهداف عسكرية أو سياسية أو حتى نفسية.

وعليه، فإن مواجهة الظاهرة أو وقف نموها وإلغاء فعاليتها، تقتضي كسر هذه المكونات جزئياً أو كلياً. وتقديرنا أن المكون السياسي هو الأكثر استعصاء على الإزاحة في هكذا مواجهة؛ وذلك لاتصاله بثوابت العقيدة الأمنية الصهيونية الإسرائيلية.

اشتباك الفلسطينيين مع الصهيونية، فكرة وحركة ودولة، سوف يعيش ما قدر له العيش، وسيف الاغتيال الصهيوني الإسرائيلي مسلط على رؤوسهم. وهو ما يستدعي الانتباه طويل الأجل لأثافي هذا التقليد الإجرامي. لاسيما تلك التي يمكن غشيانها والتصدي لها بأدوات حماية تقع في متناول اليد.

نعرف مع كثيرين كيف سمح زمن الاحتلال المديد باختراقات استخبارية إسرائيلية واسعة النطاق داخل أحشاء المجتمع الفلسطيني، لكن العناصر الساقطة بدافع أو آخر في بئر العمالة والتعاون لتسهيل الاغتيالات، ليسوا وحدهم المسؤولون عن الظاهرة. هناك قطاعات المستعربين من الإسرائيليين المدربين خصيصاً لأداء المهمة.

ومن المنطقي افتراض أن الأجهزة الإسرائيلية تعتمد في عملياتها على هؤلاء الأخيرين بصفة أساسية واستثنائية، أقله لثقتها بأنهم مؤتمنون على الأسرار العسكرية والتكنولوجية المستخدمة في هذا السياق. ومع ذلك فإن المؤسسات الأمنية الفلسطينية مدعوة للاجتهاد الإبداعي في تصيد هؤلاء وهؤلاء بلا تمييز، بدلاً من الانشغال الفائض بجبهة المماحكات الداخلية بين أهل البيت.

ولأن لكل داء دواء، فإنه لابد من توجيه جهد فائق لإبطال مفعول التقنية المستخدمة في عمليات الاغتيال. عيب كبير أن تبقى أرواح القيادات الفلسطينية ودماءهم معلقة بذمة مخترعات هي في التحليل النهائي، ومهما بلغت من التعقيد والتقدم، منتجات بشرية يمكن وينبغي فك طلاسمها ومعالجتها بمعرفة علمية وتكتيكات واستراتيجيات مضادة.

الأمر بحاجة إلى حلول من الجنس العلمي والعملي، الذي تتوسل به أجهزة القتل الإسرائيلية بقدر رفيع من الجدية. ولا نحسب أن هذا السعي سوف يخيب إذا ما أحيط بالعناية اللازمة فلسطينياً والتعاون الصادق عربياً.

نطرح هذه الدعوة وما يتصل بها من قضايا تستحق المدارسة، ونحن على يقين بفشل استراتيجية القتل المستهدف الإسرائيلية في تصفية الحركة الوطنية الفلسطينية. ثم إننا على يقين أيضاً بأن هذه الحركة ولودة ومعطاءة، وقد تمكنت دوماً من ملء الفراغات التي طالما خلفتها هذه الاستراتيجية

. لكن هذه القناعات لا تعني التسليم بديمومة عمليات الاغتيال وكأنها قدر مقدور. خاصة عندما تراوح هذه العمليات حول الأساليب ذاتها بنمطية ومنوالية واضحة.. لماذا لا تكون هذه النمطية والتكرارية حافزاً لابتكار ضماداتها ومبطلاتها، بإرادة الإبداع الذاتي الفلسطيني أو بالتعاون مع جهات لابد أنها موجودة في هذا العالم الفسيح.

 

 

Email