خلاصات من سياسات الحروب الأمريكية!

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أعلم إذا كانت صدفةً تاريخية أن يتزامن عام سقوط الأندلس مع عام اكتشاف كولومبس للقارة الأمريكية في العام 1492. فقد كان ذلك التاريخ بداية لتكوين أمّة أمريكية جديدة قامت نواتها الأولى على قهر أصحاب الأرض الشرعيين واستبدالهم بمستوطنين قادمين من أوروبا هرباً من أوضاع خاصّة في بلدانهم أو طمعاً في ثروات الأرض الجديدة.

لكن نهب الأرض الأمريكية الجديدة وقتل وتشريد أصحابها الشرعيين، ثمّ الصراعات على الغنائم بين الأوروبيين القادمين الجدد، ثمّ الحرب الأهلية بين الولايات الأمريكية المولودة حديثاً، والخلاف على تفاصيل السيادة والحكم وكيفية رؤية الجماعات البشرية المستوردة بالقوة من أفريقيا، مع ما تخلّل هذه الحقبة التاريخية من سيطرة «ثقافة الكاوبوي» وانعدام التراث الذاتي الحضاري للأمّة الأمريكية الجديدة، لم يكن ذلك كلّه طبعاً هو سبب تحوّل الأرض المكتشفة منذ قرون قليلة إلى القوة العظمى الآن في العالم.

أيضا، على الطرف الآخر (أي دولة الأندلس العربية الإسلامية) لم يكن سقوطها بسبب انعدام المضمون الحضاري الذاتي أو التخلّف العلمي والثقافي، ولا طبعاً بسبب الابتعاد عن القيم الدينية... فالسقوط العربي والإسلامي في الأندلس كان خلال عصر ذهبي من الناحية الحضارية، لكنّه كان تتويجاً لحالة التسيّب في الحكم والصراعات بين أمراء الأرض الأندلسية، وبينهم وبين باقي الولايات العربية والإسلامية.

وقد كانت بدايات الانتشار الأوروبي في الأرض الأمريكية الجديدة تحصل في خضم التخلّف الحضاري الأوروبي، لكنّ المهاجرين الأوروبيين استدركوا لاحقاً مصالحهم الخاصة في الأرض الجديدة، فجعلوا من انفصالهم عن أوروبا بدايةً لتكوين أمّة جديدة قامت على فكرة الانشقاق السياسي عن الدول الأصلية للجماعات المهاجرة، لكن دون انفصال فكري أو ثقافي عنها.

ورغم كل المساوئ التي رافقت نشوء الأمة الأمريكية الجديدة، فإنّ تحوّل خليط الثقافات والأعراق فيها إلى أمّة واحدة ما كان ليحدث لولا البناء الدستوري السليم الذي جرى في العام 1789 والذي حافظ على التعدّدية في الخصوصيات (للأفراد والجماعات) في ظلّ الانتماء إلى دولة فيدرالية واحدة.

وما كانت أمريكا لتكون على ما هي عليه اليوم لولا هذا المزيج المركّب من البناء الدستوري والتكامل الاتحادي. فلقد فشلت تجربة الاتحاد السوفييتي (رغم أنّها كانت إمبراطورية كبرى) لأنّها قامت فقط على عنصر الامتداد الجغرافي القائم على الاتحاد بالقوة، وليس على نظام دستوري سليم ومناسب لهذا الاتحاد.

أيضا، لم تنجح أي دولة بمفردها من دول أوروبا الغربية أن توازن الولايات المتحدة رغم الاشتراك معها في كيفية أساليب الحكم والصيغ الدستورية والمضمون الحضاري. لذلك اختارت هذه الدول الأوروبية (المتصارعة تاريخياً، والمتباينة ثقافياً) أن تحذو حذو أمريكا في الجمع بين التكامل الاتحادي والنظام الدستوري السليم الملائم لهذا التكامل وما فيه من جماعاتٍ متعدّدة.

فالأمّة الأمريكية هي أمّة موحّدة رغم ما فيها وما قامت عليه من تناقضات وصراعات عرقية وثقافية، أمّة محكومة بدستور يتجدّد ولو بفعل ضغط الشارع، وليس بمبادرة من المشرّع الدستوري، أمّة قادت العالم في القرن العشرين وتحاول الحفاظ على هذا الدور القيادي في القرن الحالي، ولو بالرغم من إرادة كلّ العالم.

لقد نجحت أمريكا في القرن الماضي بالتعامل مع تطوّرات عالمية كثيرة، بدأت في مطلع القرن العشرين بحربٍ مدمّرة لأوروبا ثم تكرّرت فصولها بشكل أبشع في الحرب العالمية الثانية، التي ختمتها أمريكا باستخدام القنابل النووية ضدّ اليابان من أجل تكريس نفسها كمنتصرٍ أوّل في الحرب، ومن أجل إضافة اليابان (الآسيوية) إلى الفلك الأمريكي الجديد الذي نتج عن انهيار أوروبا عسكرياً واقتصادياً.

ثمّ نجحت أمريكا في جعل العالم يقوم على حلفين أو محورين: «حلف الخير الديمقراطي الرأسمالي» (الأمريكي/الغربي)، و«حلف الشرّ الدكتاتوري» (الشيوعي/الشرقي)، وكانت ساحة الصراع بين المعسكرين هي دول العالم الثالث غير المحسوم انتماؤها نهائياً لأحد المعسكرين.

فموسكو وواشنطن حرصتا خلال «الحرب الباردة» على عدم التدخّل العسكري المفضوح في دائرة المعسكر الآخر، كما احترم قادة المعسكرين ما حصل في يالطا من اتفاقية توزيع النفوذ لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنّهم استباحوا الصراع بين المعسكرين على كلّ دول العالم الثالث، وانتهت هذه الحقبة بهزيمة المنظومة الشيوعية.

إنّ أمريكا لم تصنع الحرب العالمية الثانية، لكنّها استفادت من تداعيات الحرب لكي تُضعف المنافسين الأوروبيين الذين تربّعوا على عرش زعامة العالم منذ الثورة الصناعية في أوروبا.

إنّ أمريكا لم تخطّط للعدوان الثلاثي (البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي) على مصر عام 1956، لكنّها استفادت من ثورة المنطقة العربية على البريطانيين والفرنسيين من أجل وراثة دورهم ونفوذهم في منطقة الشرق الأوسط.

إنّ أمريكا لم تشعل نار الخلافات العقائدية والسياسية بين روسيا والصين، خلال فترة الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، لكنّها استفادت من الصراعات الداخلية في الدائرة الشيوعية من أجل عزل الاتحاد السوفييتي وانشغاله في «حروب عقائدية داخلية».

طبعاً هناك عدّة حروب وصراعات بدأتها أمريكا أو خطّطت لبعض تفاصيلها لأجل توسيع دائرة هيمنتها أو لتحجيم نفوذ المنافسين لها، وقد فشلت أمريكا في أماكن عديدة كان أبرزها في الميدان العسكري خسارتها لحرب فيتنام، والتي تتكرر حالة مشابهة لها الآن في أفغانستان.

ولا يبدو في الأفق القريب ما يشير إلى استعداد أمريكا للتراجع عن سعيها للبقاء في موقع الريادة للعالم ومن سياسات تخدم جملة خطط أمريكية، وتشمل الشرق الأوسط وآسيا وما فيهما من مصالح أمريكية ومصادر طاقة لتعزيز القدرة الأمريكية على المنافسة مع روسيا والصين، وهما الطامحتان لمشاركة الدولة الأعظم في قيادة العالم الآن.

 

 

Email