التجنيد الفكري

ت + ت - الحجم الطبيعي

وسط أشكال الحراك التي يمر بها الإقليم، والتجاذبات السياسية التي اختمرت منذ ما يسمى بالربيع العربي، يكشف لنا الشارع العربي عن قاموس مستورد تم صياغته في ساحات التكنولوجيا. مفرداته ضربت الوعي في مقتل، وغيرت اتجاهاته، وشوهت الحقائق. جعلت من الفوضى والتخريب سلوكاً للتغيير، وأسهمت في تزييف المفاهيم، بهدف خلق فجوة بين الأنظمة الحاكمة والشعوب.

هذا الوعي الزائف المصنوع بفعل فاعل يحتاج إلى مواجهة قوية قبل أن يتمدد، ويسكن عقول أجيال من الشباب، وهي الشريحة المستهدفة.

علينا أن ندرك أن هذا الوعي المستورد له أهدافه وأغراضه في تأزيم الواقع، وهز استقرار مفهوم الدولة الوطنية، وبالتالي فإن مجابهة ذلك الخطر بالحقيقة والمعلومة لتصحيح المفاهيم مهمة الدول خاصة المستهدف منها، وهنا أتذكر أنه عندما افتتح السوفييت بيتاً للثقافة في برلين لبناء ثقافة شيوعية، أسرع الأمريكيون بافتتاح المراكز الثقافية في مختلف بلاد العالم لتقديم الثقافة الأمريكية من خلال عروض السينما، وحفلات الموسيقى والمعارض الفنية والمحاضرات العامة، وإرسال فرق موسيقية من زنوج أمريكا لتغيير المفهوم الشائع عن العنصرية الأمريكية، وأعطيت لجهاز المخابرات صلاحيات هائلة ومطلقة ليفعل ما يشاء من أجل حماية الصورة الأمريكية التي ترسمها وسائل الدعاية والإعلام في خيال الآخرين.

ربما يكون هذا نموذجاً بين قوتين تتسارع في السيطرة على عقل المواطن، لكنه رسالة يمكن الاستفادة منها، فما تعيشه المنطقة الآن من مظاهرات وصدامات بين بعض الأنظمة الحاكمة والشارع يؤكد أننا أمام حروب تقدمت في أدواتها عما نطلق عليه حروب الجيل الرابع، بل إن هناك حروب الجيل الخامس، وحروباً سيبرانية تهدف إلى تفكيك مؤسسات الدولة من الداخل، عبر إطلاق الشائعات، والتشكيك، وتشويه كل إنجاز يتم على أرض الواقع، وتأليب الرأي العام.

هذه الحروب يقوم عليها أناس مدربون على أعلى مستوى، يحترفون التصويب نحو الهدف، وهو عقل «المواطن» سيما شريحة الشباب التي لا تزال في طور التكوين والتشكيل من خلال تمويلات وتدريبات وبعثات تحت مسمى المنح الدراسية لكي يتم تطبيع أفكاره ومعتقداته وفقاً لأجندة الجهات المانحة والممولة، ثم تطبيقها عبر ثورات وانتفاضات واعتداءات على ممتلكات الدولة، والأخطر من ذلك هو قيام هؤلاء «الممنوحين» بحملات التأثير على شرائح البسطاء بدعوى الدفاع عن حقوقهم الضائعة، وضخ معلومات مغلوطة وكاذبة، على عكس الحقيقة تماماً.

هذا التأثير الزائف للأسف الشديد هو سلاح «الحروب» داخل مجتمعاتنا الآن، محاولة استلاب إرادة الدولة ومنحها لإرادة الفرد تمثل كارثة نبهنا إليها الأديب نجيب محفوظ في «السمان والخريف» عندما قال: «أن نبقى بلا دور في بلد له دور أفضل من أن تكون لنا أدوار في بلد بلا أدوار».

نعم الاستخدام السييء للتكنولوجيا الحديثة صار كمجرم يقتحم غرفة نومك، وخصوصيتك ويفرض عليك أفكاره، وعليك أن تكون متسلحاً بالوعي والثقافة للتعامل مع هذا المجرم، أو أنك توقع له على بياض وتسلمه عقلك ليديره كيفما يشاء.

هنا مكمن الخطر. هنا اللحظة التي حان فيها موعد بناء العقل العربي لحمايته من الاختطاف وتحصينه ضد الفتنه والتطرف. معركة العصر. هي معركة وعي في المقام الأول. فمن يمتلك سلاح الوعي الحقيقي. سينتصر. لكن هذا النوع من الوعي بات يحتاج إلى هبة وطنية من جميع مؤسسات كل دولة في مختلف المجالات في الثقافة والفنون باعتبارهما تمثلان الجهاز العصبي لأي مجتمع وأيضا في التعليم والإعلام وكل روافد تشكيل الوعي. وهذه الخطوة لا بد أن تبدأ من مراحل رياض الأطفال بالمدارس وصولاً إلى طلبة الجامعات الذين يمثلون عصب المستقبل، مروراً بالأندية الاجتماعية التي صارت مسرحا كبيراً للدعاة الجدد والسلفيين إذ عشنا لحظات خروجهم من الجحور بخطابات التطرف، والعنف بعد أن جاءتهم فرصة الربيع ليتاجروا باسم الدين ضد الدولة الوطنية مستغلين فراغ العقول من حولهم.

الآن الإقليم يرزح تحت وطأة إعلام ووعي زائفين تصدره جماعات وتنظيمات إرهابية عابرة للحدود تهدف إلى تجنيد فكري لعقول شباب يمكن استخدامهم لخدمة مشروعات وأجندات لأجهزة استخبارات معادية، سيما أن المدافع والبنادق صارت أسلحة الحروب التقليدية بينما الحروب الحديثة يقودها «كهنة» التواصل الاجتماعي، وهنا أريد التأكيد على ضرورة إيقاظ وإنعاش الوعي العربي عبر إعلام قوي تنويري قادر علي المواجهة والمجابهة وكشف الزيف والأكاذيب وتصحيح المسارات ليعود الوعي المخطوف.

* رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي

Email